بعد نصف عام من هزيمة الخامس من حزيران 1967، أعلنت الجبهة الشعبية عن انطلاقتها، هكذا تعرف الجبهة تاريخ نشأتها، غير أن لهذا التعريف بعداً تاريخياً قد يشكل إشكالاً في مدى دقته، ذلك أن تلك الانطلاقة كانت وليدة امتداد لحركة القوميين العرب من ناحية، ومن ائتلاف ثلاثة تيارات من جهة ثانية، وإذا كانت حركة القوميين العرب نشأت عام 1952، بعد أربع سنوات من الهزيمة الأولى عام 1948 وقيام الدولة العبرية على أنقاض الشعب الفلسطيني ووطنه، فإن هذا التاريخ من المفترض أن يشكل انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، وربما يحاجج البعض ان هذه الحركة اعتمدت على القدرات التنظيمية والسياسية، دون التزامها بالكفاح المسلح، فإن قراءة أكثر تدقيقاً تشير إلى أن أول عملية عسكرية فدائية ضد اسرائيل، حدثت عام 1964 من خلال جهاز الحركة النضالي الذي كان يسمى في ذلك الوقت "شباب الثأر" عندما استشهد كل من الفدائيين الثلاثة: خالد أبو عيشة، محمد اليماني، رفيق عساف والأسير سكران سكران، أثناء عودتهم من أول عملية فدائية فلسطينية تم تسجيلها، إلاّ أن الحركة، وربما لأهداف سياسية ارتباطاً بتحالفات عربية، أو ربما تحاشياً لردود الفعل الإسرائيلية، على كل حال لم يعلن "شباب الثأر" عن هذه العملية المؤكدة بتأكيد الشهداء والأسير والاعتراف الإسرائيلي، علماً أن "شباب الثأر" هي المجموعة التي استمرت بعد تخلي الائتلاف الثلاثي عن الاستمرار، بعد انسحاب مجموعتين من هذا الائتلاف، وبالتالي فإن الجبهة الشعبية هي امتداد لشباب الثأر، وحركة القوميين العرب في الأصل.
إلاّ أن التاريخ يسجل لحركة فتح انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة برصاصتها الأولى في الفاتح من عام 1965، أي قبل هزيمة حزيران، وبات هذا التاريخ، تاريخاً رسمياً ويكتب لحركة فتح في هذه الانطلاقة، الإدراك الفلسطيني بأنه بدون أداة كفاحية فلسطينية أساساً، لن يكون بمقدور العرب والفلسطينيين استرجاع الوطن الفلسطيني، ورغم وجود جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلاّ أن سيطرة القرار العربي في ذلك الوقت، خلق انتظاراً فلسطينياً كان مستمراً منذ عام 1948، وبالتالي يسجل لحركة فتح إعادة القضية الوطنية الفلسطينية إلى الفلسطينيين، دون تجاهل ـ بطبيعة الحال ـ للبعد العربي القومي بهذا الخصوص.
تعرف الجبهة الشعبية نفسها باعتبارها "حزباً" أما مصطلح "جبهة" فالأرجح أنه استخدم للدلالة على ائتلاف ثلاث مجموعات، أو أحزاب أو قوى، كما حدث مع جبهة التحرير الفيتنامية التي تشكلت عام 1951 من عدة أحزاب، وبصرف النظر عن ذلك، فإن الجبهة الشعبية، باتت حزب اليسار الفلسطيني المقاوم مع تبنيها الماركسية اللينينية في مؤتمرها المنعقد بعد عامين من تأسيسها وهو ما تم التراجع عنه والتخلي عن التبني بالاسترشاد بالنظرية الماركسية اللينينية كمنهج للعمل، وذلك اثر مجموعة من التحولات أبرزها انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية.
من وجهة نظري الشخصية، أعتقد أن ما يميز الجبهة الشعبية عن غيرها من فصائل الكفاح المسلح الفلسطيني، الاهتمام بالتنظيم والتخطيط والعمل، ذلك احتاج إلى مستوى معرفي واسع، واهتمام بمستوى ثقافي غني، وهنا تولّدت فكرة كل سياسي مقاتل، وكل مقاتل سياسي، مع أن هذه الفكرة التي صاغها مؤتمر الجبهة المشار إليه، تم فهمها في كثير من الأحيان بشكل مغلوط حتى في بعض أوساط الجبهة القيادية والكادرية، إذ ليس بالضرورة على أن من ينتسب إلى الجبهة الشعبية أن يكون مقاتلاً مسلحاً ويخوض غمار العمليات الفدائية، وليس مطلوباً من المقاتل الفدائي أن يبحر في المعارف السياسية والثقافية، المقصود، كما أرى، هو أن البندقية غير المسيّسة، وحاملها الذي لا يدرك الأدوات والأهداف النضالية والتكتيكات والاستراتيجيات والمعارف الضرورية لبلوغ الأهداف، هي بندقية غير ثورية وعاجزة عن بلوغ الهدف المرسوم.
لذلك، كان البرنامج الثقافي في أوساط الجبهة الشعبية، موازيا تماماً، للتدريب العسكري والعمليات الفدائية، الخلايا والروابط في الميدان العسكري، كانت تهتم اهتماماً ملحوظاً بالنهوض بمستوى المقاتل نظرياً وعملياً وثقافياً، وفي معظم الأحيان، كانت تؤخذ هذه المعايير بالاعتبار للانتقال من مستوى تنظيمي إلى آخر أعلى، لذلك، أعتقد أن مقاتل الجبهة الشعبية كان يمتاز بصفات متميزة بالنظر إلى مستواه الثقافي والحرص على التزود بالمعارف والثقافات، الأمر الذي انعكس وبالضرورة على تعامل المقاتل الجبهاوي، مع محيطه من المدنيين والعسكريين، أشير بذلك إلى المستوى الأخلاقي الذي تميز به المقاتل في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفي هذا السياق، هناك أمثلة لا حصر لها، للتعامل الحاسم والرادع لكل من اتهم بالإساءة إلى الجماهير، وفي بعض الأحيان، ذهب ضحية هذا التعامل، بعض الأبرياء لأن الجبهة كانت تقف إلى جانب صاحب الشكوى، إمعاناً في الاصطفاف لصالح الجماهير!!
لا أعرف، إذا كان الأمر هذه الأيام هو نفسه الذي أتحدث عنه، إلاّ أني متأكد أن للجبهة احترامها في أوساط واسعة من الجمهور الفلسطيني، وهنا لا أتحدث عن البعد القتالي والنضالي للجبهة، باعتبار ذلك أمراً مؤكداً وبديهياً، لكنني أتحدث أولاً عن المستوى الثقافي والمعرفي للأعضاء، وعن المستوى السلوكي والأخلاقي وممارساتهم اليومية.
وقبل أن أنسى، فهناك عدد كبير ممن تركوا الجبهة الشعبية تنظيمياً، لسببٍ أو لآخر، إلاّ أن هؤلاء، ما زالوا متهمين بانتمائهم للجبهة، وهي تهمة نفخر ونعتز بها وتليق بالتاريخ النضالي لجبهة تَرَبَّينا بين صفوفها!!
Hanihabib272@hotmail.com

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد