كادت أحداث القرم ـ جورجيا في آذار 2014، تحيي من جديد حربا باردة بين الاتحاد الروسي وحلف الأطلسي، لولا أن الأول تمكن من فرض واقع جديد لم يتمكن الثاني من مجابهته، ثم ضم القرم بشكل احتفالي رسمي، ولم تعد تلك المنطقة مجال نزاع معلن، وتم فرض أمر روسي واقعي، في حين ظل الاتحاد الروسي، لاعباً أساسياً في كل أحداث جورجيا، في ذلك الوقت، فرض حلف شمال الأطلسي، ومن خلال عدة دول حصارا اقتصاديا على الاتحاد الروسي، تركيا، كانت البلد الأكثر بروزاً في عدم الانصياع لقرارات الحلفاء، ولم تشارك في هذا الحصار، لسبب بالغ البساطة، وهو أنها شريك اقتصادي مهم للاتحاد الروسي، وهي ستخسر أكثر من الاتحاد الروسي في حال إن فرضت، كأغلب دول حلف الأطلسي، حصاراً اقتصادياً على الاتحاد الروسي.
تغيب هذه الحقيقة عن هؤلاء، الذين حاولوا من خلال انتقاء بعض الأرقام والإحصاءات من هنا وهناك، التأكيد على أن الإجراءات الاقتصادية التي اتخذها الاتحاد الروسي ضد تركيا إثر إسقاط الطائرة الروسية، هي ليست لمصلحة روسيا، أحد «الخبراء الاقتصاديين» تساءل: «هل أحد شاهد أو اشترى أي سلعة روسية في الأسواق، إن روسيا لا تنتج شيئاً على عكس تركيا التي تملأ بضائعها أرفف أسواقنا» هذا الخبير الاقتصادي لم يتساءل بالمثل: هل شاهد أحد أو اشترى سلعاً أميركية من أسواقنا.. الجواب طبعاً بالنفي في كلتا الحالتين، ذلك أن الدول الكبرى، تنتج وتصنع أدوات الإنتاج وليس سلعاً استهلاكية تحتل أرفف الأسواق التي يرتادها المستهلكون.
وحقيقة أخرى، إذ يبلغ التبادل التجاري بين البلدين 31 مليار دولار، يتقاسمانها تقريباً فيما بينهما، لكن قراءة تفصيلات هذا الميزان، تشير إلى أن هناك سلعاً ذات طبيعة استراتيجية، وسلعاً يمكن الاستغناء عنها مؤقتاً أو إيجاد بدائل سريعة لها، فإذا عرفنا أن 12.5 بالمائة من صادرات الاتحاد الروسي من القمح تذهب إلى تركيا، فهذا يعني أن هذه السلعة الاستراتيجية أهم بكثير مما تصدره تركيا من خضار وفواكه إلى الاتحاد الروسي، البلدان يصدران ويستوردان فيما بينهما، غير أن عناصر المواد تختلف في أهميتها، والغاز والقمح بالتأكيد سلع استراتيجية، بينما ما تصدره تركيا إلى الاتحاد الروسي، إنما هي سلع استهلاكية، وارقام التبادل التجاري تصبح غير ذات أهمية، لمجرد الزيادة أو النقصان، إذا ما تم صرف النظر عن البعد الاستراتيجي للتبادل التجاري بين أي بلدين، ومظاهر أرفف الأسواق ليست دليلاً على قوة أو ضعف أي اقتصاد، هذا إذا ما استثنينا، الصناعات العسكرية والصناعات السياحية والموارد الاستثمارية، وكلها تصب لصالح الاتحاد الروسي.. لكن ليس تماماً!!
فتركيا تحتل المركز الخامس، دولياً، بين شركاء روسيا، وتتقدم على جمهوريتي بلاروسيا وكزاخستان، وهما شريكتا روسيا في الاتحاد الروسي، وبحكم الجغرافيا الاقتصادية، فإن التبادل التجاري بين بلدين متجاورين، يعتبر ميزة تجارية لصالح الطرفين، كما هو الحال بين روسيا وتركيا، لذلك، فإن أي إجراءات اقتصادية عقابية يتخذها طرف من الطرفين، ستعود عليهما سوية بالضرر، رغم نسبية تلك الأضرار، خاصة وأن الزيارة الأخيرة التي قام بها اردوغان إلى موسكو، كشفت عن مخططات طموحة لرفع التبادل التجاري بين البلدين إلى مائة مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف ما هو عليه الأمر الآن، خلال السنوات الخمس القادمة، وبحيث يتم التوصل بينهما إلى اتفاقية تجارة حرة في قطاعي الخدمات والاستثمارات، ويعتبر هذا التطور ـ قبل حادث الطائرة ـ أمراً حيوياً بالنسبة للاتحاد الروسي أكثر من تركيا، لأن الأول يعاني من العقوبات التي فرضت عليه بسبب الأزمة الاوكرانية، وهنا فإن الأمر يتجاوز المصالح التجارية الاقتصادية إلى المصالح السياسية، ذلك أن علاقات جيدة وإيجابية مع «الجارة» تركيا، يشكل خرقاً سياسياً إضافياً في صفوف حلف الأطلسي، على جبهة اوكرانيا، ولا شك أن ذلك يشكل أحد أهم أهداف التبادل التجاري بين البلدين بالنسبة لروسيا.
لذلك، فإن الإجراءات العقابية الاقتصادية التي أعلنها الرئيس بوتين، كانت خطوات أولية محسوبة، لم تطل كل عناصر التبادل التجاري، ما يشير إلى أن الرد الروسي، لن يتوقف عند الإجراءات الاقتصادية من ناحية، وان بوتين يتوقع «تهدئة» ما على ملف العلاقات بينهما، وبالرغم من صدمة إسقاط الطائرة إلاّ أن الجانب الروسي تعامل مع الملف الانتقامي بحذر مدروس بدقة، وبحيث لا تشكل هذه الإجراءات انتقاماً من الاقتصاد الروسي، في ضوء عقوبات الأطلسي الاقتصادية، إلاّ بالحدود الدنيا المقبولة على ضوء رد الفعل المطلوب على صدمة إسقاط الطائرة.
تركيا، أسفت ولم تعتذر، واستجدت مصافحة بوتين الذي صفعها في باريس، وتدرك أن وقوف الأطلسي مع مغامرة رئيسها، ما هو إلاّ من باب الكبرياء الكاذبة، وتحاول التراجع لكن ذلك يتطلب التغاضي عن كرامة لا تزال تشكل عقبة أمامها، ولعلها تنتظر من الحلفاء التوصل إلى مخرج، لكليهما، بروكسل وأنقرة، حلف الأطلسي وتركيا!!

Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد