287-TRIAL- أسابيع ثلاثة كانت مدججة بالتهديدات واجتماعات متواصلة لمجلس الحرب ... كثير من الغبار وقليل من النار بدا كأن المنطقة تندفع نحو الجنون، لكن الأمور كانت على غير ذلك، فنتنياهو المعروف بخوفه من الحروب لقلة خبرته العسكرية كونه لم يحصل عسكرياً سوى على رتبة نقيب، كان خلال ولايته الثانية يتكئ على أيهود باراك العسكري المحترف لتغطية هذا النقص وقد تمسك به إلى الحد الذي أراد أن يضمن له مكانا على لائحة الليكود للكنيست لولا انتخابات 2013 الداخلية لليكود والتي أفضت إلى فوز المتطرفين على القائمة وعلى رأسهم موشيه فيغلين الذي تسبب بهجر شارون من الليكود، وكانت مقولتهم بعد انتهاء البرايمرز "على باراك أن يبحث عن مكان خارج الليكود" .
كان نتنياهو خلال الأسابيع الثلاثة حائرا ما بين موجة عالية من المطالبة بالتصعيد والانتقام وما بين تردده وخوفه من أن تخرج الأمور عن قدرته على السيطرة ... ما بين الرغبة في الانتقام أمام تلك الموجة التي بادرت إليها جموع المستوطنين وأعضاء كنيست على صفحاتهم للتواصل الاجتماعي مثل نفتالي بينيت وإيليت شاكيد وداني دانون وصوت الحسابات الهادئة الصادر عن ليفني والذي انضم لهما بشكل مفاجئ موشيه يعالون الذي قال: يجب أن نفكر هذه المرة من العقل وليس من البطن، ويعرف نتنياهو المتوجس من يعالون أن الأخير يسعى لأن يكون بديلا له فلا يريد أن يخطئ هذه المرة.
ما بين لحظة الجنون كما كتب نوعام بيرل أمين سر حركة بني عكيفا العالمية ولحظة العقل التي فاجأ بها موشيه يعالون ظل نتنياهو مرتبكا في إدارة الأزمة التي على ما يبدو حسمت حين انضم خوف نتنياهو إلى صوت العقل فرجحت لغة التهدئة ليبدأ بمحاصرة التصعيد قبل أن ينفلت الجنون.
سيطرت لغة التهديد بالقوة بديلا عن استعمال القوة، وحين بدا أن التهديد بالقوة لم تحدث الاستجابة المطلوبة، اتبعت سياسات التعتيم كسلاح جديد يترك الجميع حيارى في خيارات إسرائيل، خاصة أن اجتماعات الكابينيت هي الأطول في تاريخ إسرائيل في العقود الماضية. وفي كل مرة كان المشهد مرتبكا في إسرائيل بارتباك رئيس وزرائها تناقض الأصوات التي يدفع كل منها إلى اتجاه متعارض مع الآخر، ما أحدث توازنا تسب في حالة من الشلل والارتباك والخوف من انفلات الوضع.
معروف عن نتنياهو عدم قدرته على اتخاذ القرارات سواء بالسلم أو بالحرب، وقد عزز التحالف الذي قام تركيبه على هذا الوضع، إذ أحدث توازنا كان لا بد وأن يساعده على ذلك ما بين لابيد ونقيضه ليبرمان، وبين ليفني وعدوها نفتالي بينيت، هذا الأمر كان مريحا لرجل أطلقت الصحافة على حكوماته حكومات المراوحة، وهذا ما حدث في الأسابيع الثلاثة الماضية، كان يريد أن ينقض على الضفة الغربية، ولكن عيون العالم التي شجبت الحادثة كانت مفتوحة جيدا والهواتف الحمراء لم تكف عن الرنين، كان يتمنى أن يضرب غزة ولكن تساؤلات النتيجة كانت تؤرقه بشدة.
كانت هناك إجابات معلقة على السؤال الكبير "ما علاقة غزة بالعملية في الخليل؟" ولحسن حظ نتنياهو لم تستطع أجهزة الأمن إيجاد طرف خيط يربط بينهما، وهو السؤال الذي سيعاد طرحه وسيضع الحكومة في مأزق حين يستنسخ سؤالا مشابها عندما تلقى الصواريخ على كل المدن الإسرائيلية إذا ما أقدمت إسرائيل على شن هجوم على غزة، ففي إسرائيل كلها ليس هناك من هو مستعد للإجابة على سؤال: لماذا قمتم بنبش عش الدبابير واستدعيتم كل هذه الصواريخ؟
ومع جريمة قتل الفتى المقدسي محمد أبو خضير كان الموقف الدولي يستعيد توازنه في غير صالح إسرائيل ليؤكد صوت العقل وتحذيرات تسيبي ليفني التي كانت تخشى من أي تهور إسرائيلي يفقدها التعاطف الذي تحقق مع مقتل المستوطنين الثلاثة، الجريمة التي ارتكبها المستوطنون بإحراق الفتى المقدسي التي فتحت على إسرائيل نذر انتفاضة هي آخر ما تتمناها وخصوصا في القدس لتحدث انقلاباً، الصورة في صالح داوود الفلسطيني أمام جوليات الاسرائيلي هذه المرة، وفي ظل ظرف دولي مختلف تعكسه ردود الفعل الدولية وأبرزها الأميركية على جريمة مقتل الطفل الفلسطيني حين استخدمت الخارجية الأميركية مصطلحات "الجريمة مقززة ومثيرة للاشمئزاز" والتي لم تكن بتلك الحدية في إدانة مقتل اليهود الثلاثة.
ظني أن العالم كان يراقب مشهد القتل والقتل المضاد بارتياح أكبر وخاصة بعد انسداد عملية التسوية وإفشالها من قبل حكومة نتنياهو، وربما أن التصريح الأبرز للرئيس الأميركي يجعل من السهل الاعتقاد بذلك حين قال بعد توقف المفاوضات انه "سيترك عباس ونتنياهو ينضجان في حسائهما" وها هي أحداث العنف المتبادلة ترفع مستوى النار وتسرع في عملية الإنضاج، وربما هذا بالضبط ما كان يريده الأميركيون وخلفهم الاتحاد الأوروبي الذين يضغطون من خلال سياسة "عدم الضغط" ودع الطرفين يكسران رؤوس بعضهما حتى يستجديا التدخل الأميركي.
وهذا كان يتطلب من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مراقبة المشهد من بعيد ولكن من داخله، يتركون التصعيد يفعل فعل الخميرة في العجين ولكن تصعيدا مضبوطا لا يرفع مستوى النار حتى لا يحترق كل شيء، وهذا ما كان وهذا ما فهمته جميع الأطراف وهي ترفع صوت التهديدات والرسائل المحمولة على رؤوس الصواريخ التي كانت تضرب في مناطق مفتوحة، وهذا فهمته إسرائيل وتحركت في حدود ما يريد العالم وليس ما يريد بينت وليبرمان حتى لا يتحقق كابوس ليفني، فموقف إسرائيل الدولي على شفير الهاوية، ولم تغير فيه كثيرا عملية الخليل، ولم يطل الوقت حتى أعادت صور الطفل أبو خضير قلب المشهد، وإسرائيل لا تحتمل غضبا اكبر.
إسرائيل لا تريد غزة ولا تريد منها سوى وقف الصواريخ، فغزة بنظرها كما كتبت أليكس فيشمان "اليوم أكثر مما كانت في أي وقت مضى يذكرنا بما يجري في الصومال" اذ تعتقد إسرائيل أنها تنهار وتقترب من صراع داخلي يستنزفها ويقلب أولوياتها بعيدا عن إسرائيل حين تنشغل بأزمة الرواتب وصراع البنوك من جديد، فقرار التصعيد الذي اتخذته إسرائيل هو تصعيد بالاستيطان وهذا يخدمها استراتيجيا ويخدم حالة الخوف التي يعيشها رئيس وزرائها من التهور، لهذا كان لابد لغزة أن تقف جانبا، فأي معنى للصواريخ التي تنطلق منها متزامنة مع انتفاضة بدأت في القدس ينتظرها كل الفلسطينيين كورقتهم الأهم في تغيير موازين القوى وحشر إسرائيل كدولة محتلة، فالصواريخ لحظتها كانت حرفا للأنظار عما يجري في القدس وسرقة للأضواء وإظهار إسرائيل بمظهر الضحية، وهذا لا يجوز، واستمرارها قد يبرر لإسرائيل عدوانها أمام العالم.
إسرائيل لا تستطيع الهجوم على غزة ولا تريد، والخوف في الضفة وعليها والصراع هناك على كل حجر، على غزة أن تكف عن إثارة الغبار الذي تسرق إسرائيل من خلفه أراضي الضفة ..لا تريد غزة ولا تستطيع ضربها لأن إدانات مقتل الطفل خضر تقول انتهى الزمن الذي يمكنها أن تضرب مدرسة الفاخورة، لم تعد يدها طليقة ولكن مشروعها وعينها على الضفة، إسرائيل في حيرة ويعكسها ارتباك المشهد، على الفلسطينيين أن يقرؤوا بهدوء للاستفادة من اللحظة لا أن يخربوا على أنفسهم.
Atallah.akram@hotmail.com 151

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد