لم أرد أن أخوض في الجدل الذي ثار حول قيام حركة حماس بتوزيع الأراضي على موظفي حكومتها كتعويض لهم عن مستحقاتهم السابقة التي تراكمت بفعل عجز الحكومة والحركة عن دفع أقساط من رواتبهم خلال سنوات عملهم التي بدأت بعد الانقسام؛ إذ إن الحديث في الكثير من التفاصيل يبدو في مرات كثيرة تعميقاً للانقسام نفسه، وبحث آخر عن سبل تطوير دينامياته وتُروسه في الحياة الفلسطينية اليومية للدرجة التي بات فيها من الصعب تخيل أن شيئاً يحدث في فلسطين ولا يكون الانقسام جزءاً أساسياً منه أو سبباً له أو التفسير الأنسب لفهمه. 
والحال كذلك، فإن ما تم من توزيع للأراضي على موظفي حكومة حماس والنقاش الذي كان يمكن أن يكون حول ذلك لا يفعل إلا أن يأخذ الانقسام أشواطاً بعيدة إلى الأمام، حتى يصبح متعذراً الإمساك به. 
وحقيقة الأمر أننا قد ندرك في وقت متأخر أن الانقسام بات شيئاً أبدياً لا يمكن التراجع عنه، وقد قلت على هذه الصفحة: إن هناك محاولات كثيرة تسعي إلى «تأبيد» الانقسام وتخليده، ليس بوصفه تحفة فنية من إرث الماضي، ولا لأنه بات من تلك الأشياء التي تحكي جزءاً من تاريخنا، بل بوصفه الشيء المقدس الذي يصعب التنازل عنه، ويصعب تخيل الحياة دونه. 
وربما بقليل من البلاغة، وبكلمات تحمل المعني مباشرة، فإن الانقسام بات في نظر البعض ضرورة وطنية، ويمكن فهم الكثير مما يجري بوصفه تخليداً لهذه المقولة. 
الانقسام كضرورة وطنية تعني ضمن أشياء أخرى أنه يجب فعل كل شيء يحافظ على الانقسام، ويحميه من أعدائه دعاة الوحدة الوطنية والباحثين عنها. 
الانقسام كضرورة وطنية يعني ابتداع الميكانزمات التي من شأنها أن تعطل أية محاولة لرأب الصدع الداخلي وجسر الهوة. 
الانقسام كضرورة وطنية تعني أن يتم حقن الانقسام بالأمصال والتطعيمات اللازمة التي تحميه من فيروس الوحدة الوطنية. 
الانقسام كضرورة وطنية يعني أن نصر أن المستقبل الفلسطيني لا وجود له دون الانقسام، وأننا لا يمكن أن نكون أسوياء دونه، وأن حياتنا سوداء إذا ما تركناه وتخلينا عن نعمه التي نظن أننا نعيشها. 
من هنا فإن ما يحدث من قيام حكومة حماس في غزة بتوزيع الأراضي على موظفيها كتعويض عن استحقاقاتهم المالية المتراكمة ليس إلا من باب القول إن الانقسام نعمة وطنية ومصلحة عليا يجب أن نعمل على إدامتها. 
بداية لا بد من السؤال الكبير حول أحقية حركة حماس بفعل ذلك. 
هل يعقل أن تمتلك حركة الحق في توزيع الأراضي العامة والملك العام على أفراد بغض النظر سواء كانوا موظفين لديها أو أي شيء آخر. 
هذا يعود للسؤال الحقيقي الأهم الذي يقترح علامة التعجب الكبيرة التي تنتصب خلفه أن الحكومة في غزة غير موجودة، وأن كل الحديث عن اتفاق الشاطئ لم يكن إلا تفاؤلاً مفرطاً. 
الحكومة في غزة لا تعمل، وهي لا تحكم، وليست صاحبة ولاية على أي شيء. 
يمكن سوق عشرات الأمثلة على لاشرعية هذا الإجراء، ويمكن الخوض في جدل يدوم ساعات حول أحقية أو عدم أحقية حماس بفعل ذلك، حيث يعتمد القول على أية ضفة تقف من النقاش السياسي الجاري، لكن ما لا يمكن هو أن تكون خلاصة أي نقاش التسليم بأن تقوم جهة ما بدفع استحقاقاتها مع مستقبل الأجيال القادمة، الأجيال التي لن تجد قطعة أرض تبني عليها بيتاً وتشيد عليه مؤسسة عامة تخدم الناس. 
إن أخطر ما في الأمر هو أن توزيع هذه الأراضي يشكل اعتداءً صارخاً على مستقبل أبنائنا، ويحرمهم فرصة أن يجدوا ما يحلمون به من بيت ومزرعة يأكلون من ثمارها. 
مرة أخرى دائماً يمكن لك أن تبدع في أن تجد السبب الذي تعتقد أنه مناسب، كما يمكن لك أن تقنع الآخرين بأن وجهة نظرك صائبة، وتجعلهم يرددون خلفك ما تريد لهم أن يصدقوه، لكن تظل الصعوبة في أن تكون نتائج ما تفعله متطابقة مع كل تلك التبريرات الواهية التي يمكن لك سوقها. 
إن أخطر شيء هو أن تدوس على المستقبل وأنت تبحث عن الخلاص اللحظي للخروج من الورطة التي تمر بها، وأخطر شيء تقوم به الحكومة في غزة هو أن تدوس على مستقبل أطفالنا من أجل أن تفي بديون موظفيها عليها.
أنا لا أعرف، لأن السادة المسؤولين عن اتفاق المصالحة عليهم أن يجيبوا بصراحة، إذا ما كانت حكومة الوفاق قد التزمت بدفع مستحقات الموظفين السابقة. 
لا أظن أن عاقلاً يمكن له أن يصدق ذلك، لكن يبدو أن اتفاق المصالحة قد تم طيه ووضعه على الرف ولم يعد المرجعية الأساسية عند الحديث عن أعمال الحكومة. 
وربما القول: إن الاتفاق كان مركوناً على الرف منذ البداية ولم يكن هو حجة الخلاف من باب العقد شريعة المتعاقدين. 
والأسوأ من ذلك أن يتم مقارنة هذه الخطوة بخطوات السلطة السابقة ببناء أحياء سكنية عند المستوطنات وعلى التخوم مثل أبراج الندى والعودة وغيرهما، حيث لم تنطلق فكرة بناء تلك الأحياء (وهي أحياء مكونة من عمارات تضم كل عمارة عشرات الشقق، وليست قطع أراض) من دفع مستحقات أحد، بل جاءت ضمن رؤية وطنية لمحاربة الاستيطان ومصادرة الأراضي. 
عموما ليس هذا بيت القصيد، بل إن الخطر أن تتأمل فتجد أن المستقبل بات عملية متعبة، والبحث عنه لم يعد يهم أحداً، ولم يعد من المجدي التفكير فيه. 
من الواضح أن الانقسام بات حقاً ضرورة وطنية، وبات كل شيء يتم على أساس أنه باق إلى الأبد، وإن من يفكر في الكثير مما يتم على الأرض يجزم أن المرحوم طيب الذكر «الوحدة الوطنية» لن يبعث حياً.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد