ليست المشكلة هنا فقط في توزيع الأراضي الذي قررته حركة « حماس » لتعويض موظفيها، فالأرض هنا مستباحة لكل من يحكم،  وقد فعلها الرئيس الراحل ياسر عرفات عندما وزع أراضي وشققاً وجمعيات إسكان على الموظفين دون المواطنين، كذلك ترى حماس أنها تفعل ما فعله السابقون وإن رفعت شعار التغيير والإصلاح! أي إصلاح ما أفسده السابقون، وإذا بها تستشهد بهم عندما تسلك مثلهم!
لا عزاء للمواطن في أرضه، فالسلطة وزعت منها وها هي حماس تأخذ حصتها وما يتبقى في الضفة يأخذه المستوطنون، لا أحد يلوم حركة حماس طالما أن هناك تقليداً بتوزيع الأراضي، لكن الأزمة هنا أن الحركة تصادر الأرض لصالح موظفيها، حيث إن أغلبيتهم الساحقة ينتمون للحركة، توزعها بل تبيعها للموظفين الذين أتخمت حكومتها بهم وتقطعت بهم السبل حين عجزت عن دفع رواتبهم لأكثر من عامين في ظل نفق الأزمة الذي دخلته حماس منذ إغلاق الأنفاق وعدم القدرة على تطبيق المصالحة وعدم اعتراف حكومة الوفاق بهم حتى اللحظة.


لا زالت حركة حماس هي من يحكم قطاع غزة منذ أكثر من ثماني سنوات عندما اندفعت بقوتها المسلحة نحو مؤسسات السلطة لينتهي الأمر بطرد الأخيرة من القطاع وسيطرة الحركة عليه وسط اندهاشنا جميعاً مما فعلته الحركة، وسؤالنا جميعاً: من الذي ورطها بذلك؟ 


وما زال السؤال معلقاً ويمكن الآن أن يتضح أن تلك السيطرة تمت بلا حسابات استراتيجية تقرأ طبيعته السلطة واتفاقياتها والوضع الإقليمي والدولي حيث ظهر منذ الأيام الأولى أن الحركة ستدخل سنوات صعبة من المسؤولية بلا إمكانيات.


قاتلت الحركة بأسنانها كي تُنجح تجربتها وكي تتحمل مسؤولية مغامرتها وفشلها مع باقي الأطراف وبالتحديد حركة فتح في التوافق على توزيع السلطة، وحاولت بكل ما تستطيع من قوة في ظل أزمات كانت بادية للعيان، لكن الحركة كانت تعمل على ترحيلها لتوهم نفسها أن غزة المنفصلة عن الكون يمكن أن تعيش للأبد بلا أزمات.  ووصل الوهم في لحظة من اللحظات حد استعداد غزة لإنقاذ موازنة الضفة الغربية والسلطة في رام الله وسط اندهاش الجميع أيضاً.


قصة بيع الأراضي ليست الأزمة هنا فهي ستوزع على مواطنين فلسطينيين وإن كانت ضارة على المدى البعيد، لكن حماس تحل أزمة مؤقتة بصناعة أزمة استراتيجية فالأرض هي احتياط استراتيجي لأجيال قادمة وهي وديعة لدى الحكومات للحفاظ عليها وعدم التفريط بها أو بيعها إلا لبناء مدن سكنية تستوعب التزايد السكاني أو للمستشفيات والمدارس، ولا يجوز للحركة إن كان هناك قبلها مَن ارتكبوا هذا الخطأ أن تسمح لنفسها بارتكاب الخطأ نفسه.


لكن الأبرز هنا أن هذه الأزمة التي تمر بها حركة حماس هي تعبير عن المأزق الذي وصله مشروعها وسط سلسلة من الأخطاء التي رافقت مسيرتها، وأبرزها الخلاف مع السلطة والتباين الحاد بالموقف مع مصر لصالح حركة الإخوان المسلمين، حين اندفعت بموقف عقائدي داس في طريقه أي توازن سياسي سرع في خنق التجربة وإظهار عجزها، ولم تبق الأزمة محصورة في الكهرباء والاقتصاد والمعابر بل تدحرجت لتصل إلى الموظفين ورواتبهم.


لم تدرك حماس منذ البداية طبيعة المأزق حين شاركت في انتخابات سلطة مرتبطة ومقامة على أساس اتفاقيات هي ترفضها تماماً، بل تقف على النقيض منها، بل وأكثر لم تخف رغبتها بإسقاطها وبالتالي أصبحت تدير سلطة هي معارضة لها ولتكوينها، ليلتبس عليها الأمر. فلا هي التزمت بنصوصها حتى تستفيد من امتيازاتها ولا هي تمكنت من تجاوزها لتتحرر من قيودها، فوقعت وأوقعتنا معها في كمين كان مكلفاً جداً لسكان قطاع غزة الذين عاشوا سنوات من الألم والمعاناة والفقر والبؤس، ولا يزالون.


إذا كانت الحركة تعتقد أن الأزمة أزمة موظفين تكون ما زالت لم تدرك عمق الأزمة ..


يمكن بيع الأرض للموظفين لسداد ديون سالفة ولكن ماذا بعد؟ هل ستستمر في قضم الأرض كما قطعة الجبن دون اكتراث بالأجيال القادمة بعيداً عن تخطيط اقتصادي لمدى بعيد يعرف فيه كيف تدار الموارد المادية بحرص شديد؟ 


أزمة الرواتب ليست الأزمة بل تعبيراتها .. ليست المرض بل الطفح الجلدي الخارجي لأزمة بدت أعمق من حلول ترقيعية، فلا تدار الأوطان بالترقيع ولا بالمسكنات، ولا تعالج الأزمات بأعراضها بل بأسبابها.


أكثر من ثماني سنوات تحملنا قسوة الحياة التي نتجت من إغلاق معابر أطاح بمستقبل الأبناء وطوابير من الخريجين والبطالة وأزمات الكهرباء وحرق الشموع والصيف والشتاء على أمل مصالحة أو على أمل أن تدرك حماس أن هناك نهاية لكل الأشياء، ولا يمكن الاستمرار هكذا.. 


قلنا ..كتبنا ..انتقدنا ..قدمنا النصيحة، حرمنا من السفر، حيث الإسرائيلي يمارس سطوته الاحتلالية في المنع، تحملنا ويلات الحرب سوياً ودفعنا ثمنها بلا شكوى وخرجنا من تحت الأنقاض منهكين ولم نصرخ؛ لئلا يشمت الأعداء بنا، لملمنا جراحنا وبقايا صمودنا بألم خافت، ولكن ماذا بعد؟


هو سؤال اللحظة الأكثر إلحاحاً وسط حالة الانسداد الهائل التي يعيشها الفلسطينيون، هو سؤال كل شيء حين نعجز عن تحقيق الاستقلال بالرغم مما قدم على طريق الحرية، وإذا كان المشروع السياسي لم يتقدم بل تقدم الاستيطان فلماذا يتعزز معه الشرخ الداخلي؟ 


وإذا كانت كل الأمور تراوح مكانها إذا لم يكن هناك تراجعات تستدعي كثير من المراجعات فعلى الأقل ألا يمكن التحفيف عن مواطن أصبح رهينة الفصائل والحسابات والتجاهل القاتل وكأن غزة سقطت من كل حسابات السياسيين وأن معاناة أهلها ليست ذات أولوية لأحد؟


سنوات طويلة من محاولات الحياة في غزة لكن الوضع يزداد سوءاً.


غزة بكل صعوبة وتتعلم بصعوبة وتتنفس بصعوبة، تسير زاحفة في مشهد جعل سكانها يتساءلون دوما عن فعل السياسيين وهم يرون هذا الحجم الهائل من اللامبالاة من قبل السياسيين. 


لا يمكن الاستمرار هكذا، وعلى حركة حماس أن تدرك أن المشروع لم يقلع بالرغم من كل المحاولات لأن غزة لا تقلع وحدها، وعلى السلطة أن تضع خطة احتواء لغزة وتتحمل مسؤوليتها في توفير آلية السفر وحل أزمة الكهرباء والمصالحة فلا يجوز أن تستمر هكذا لأن الناس فيها يفقدون ثقتهم بالجميع.


Atallah.akram@hotmail.com

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد