ستدخل الهبّة الجماهيريّة شهرها الثالث، دون مؤشرات واضحة على توقفها، ودون أن يستطيع أحد تقدير توجهاتها في المستقبل، فطريق سيرها أصبح خارج إطار التنبؤ؛ لأنها خالفت التحليلات السياسية كلها بل والتقييمات الأمنية للجانب الإسرائيلي.
ما يختلف في هذه الانتفاضة أنها تقوم على الفرد، فهو الذي يخطط، وينفذ، ويستشهد أو ينسحب... دون أي معلومة بسيطة بحدها الأدنى تصبُّ في مصلحة أجهزة الاحتلال الإسرائيلي الأمنية.
قد يكون هذا سرّ استمرار العمليات على النهج نفسه... على عكس الانتفاضة الأولى أو الانتفاضة الثانية.
في الانتفاضة الثانية تغلّبت إسرائيل استخباراتياً، ما أدى إلى اغتيال عشرات الناشطين والقادة، لأن المقاومة اعتمدت على الشكل الجمعي، سواء فيما يتعلق بخلايا المقاومة أو الارتباط مع التنظيمات العسكرية، الفرق واضح تماماً الآن، حيث إن الجانب الإسرائيلي في حيرة شديدة من أمره، هو يتخبَّط دون أن يعي نتائج تخبُّطه، وأصبحت العقوبات الجماعية، الأسلوب الجديد القديم في عقاب أبناء الشعب الفلسطيني، وهي ليست بالشيء الجديد، ولكنها تؤكد إفلاس هذا الاحتلال، وعدم قدرته على إيقاف الهبّة، أو الحدّ من تأثيرها... .
لا شكّ في أن سياسة هدم المنازل التي عادت لتتصدّر عشرات الأخبار العبرية، تؤكد على فشل سياسي نابع أصلاً من تقديرات أجهزة الأمن الإسرائيلية السابقة، بأن عقوبة تدمير المنزل توقف الهبّة، فنتائجها تكاد تكون عكسية، ولكنها قد ترضي المجتمع الإسرائيلي الذي فقد ركيزة الأمن الشخصي.. علماً أن صعود اليمين الإسرائيلي وخاصة المتطرف منه جاء على قاعدة أن حكومات اليمين هي القادرة على الحفاظ على الأمن الشخصي والاستقرار الاقتصادي، ولكن أياً من الأمرين لن يستمر طويلاً... فالأوضاع الاقتصادية ليست على ما يرام والفجوة الاجتماعية بين الإسرائيليين تتعمّق أكثر... والتظاهرات الاجتماعية والاقتصادية الضخمة التي شهدتها مدن إسرائيلية خلال الأشهر الماضية، وعلى رأسها مدينة تل أبيب تؤكد أن هناك خللاً ما.
ظل الأمن الشخصي سلاح نتنياهو السحري، والذي طالما تغنَّى به اليمين الإسرائيلي.. وأنه الوحيد القادر على توفير هذا الأمر لكل فرد إسرائيلي، وخاصة بعد إقامة جدار الفصل العنصري، والذي خدع الإسرائيليين بزعم أنه عامل حماية إضافي...
ولكن خلال الأسابيع الماضية، سقطت ورقة التوت عن عورة الأمن الشخصي، وبات الإسرائيلي مجبراً على الدوران في متاهة فقدان الأمن الشخصي، فالمقاهي والمطاعم غير آمنة، وحسب تقارير إسرائيلية فإن هناك انخفاضاً كبيراً في عدد روّادها... والمواصلات العمومية أيضاً غير آمنة... ما أدى إلى اللجوء إلى سيارات الأجرة الخاصة، التي ضاعفت من تكلفة مواصلات الفرد الإسرائيلي، والمواقف على مفترقات الطرق غير آمنة وشبه مهجورة، على الرغم من الإجراءات الأمنية المشددة سواء بوضع مكعّبات إسمنتية أمام هذه المواقف، أو تدابير أمنية أخرى وأهمها الانتشار المكثّف لجنود الاحتلال على هذه المفترقات... وكل هذا يؤثر على الوضع النفسي والاقتصادي والاجتماعي للمواطن الإسرائيلي...
حكومة اليمين، وهذا المشهد الصادم للإسرائيليين، غير قادرة على فعل شيء، أو بمعنى آخر غير قادرة على أن تكتشف عقوبات فردية أو جماعية أكثر من العقوبات التي فرضتها حكومات اليسار أو حتى حكومات الوحدة الوطنية التي شكلت على مدار العقود الثلاثة الماضية على الأقل.
المشكلة الأهمّ أن سياسات حكومات اليمين الثلاث الأخيرة قضت بشكل شبه كامل على حل الدولتين... وفي الوقت نفسه لا يمكنها تحمل تبعات حل الدولة الواحدة... ولا يوجد خيار سياسي حقيقي أمامها... لأنها بسياساتها العنصرية والاستيطانية قضت على الآفاق السياسية كلها، بل أغلقتها دون رجعة.
إن الخروج من المأزق اليوم يُحتِّم على الجميع النظر إلى المستقبل، على قاعدة الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين على أساس حدود الرابع من حزيران من خلال قوة أممية تعمل على حماية الشعب الفلسطيني، الذي يتعرّض لإرهاب وجرائم ممنهجة من سلطات الاحتلال والمستوطنين.
الحماية الدولية كبداية توفر للمواطن الفلسطيني الأمن وتحافظ على حقوقه، وتكون مقدمة حقيقية لحل سياسي شامل، ربما يشمل المنطقة العربية بشكل كامل، خاصة في ظل التطورات والمخاض السياسي الخطير الذي تمر به عدة دول عربية.
وبالتالي، فإن حل القضية الفلسطينية سيكون بمثابة مفتاح رئيس للولوج إلى أبواب مغلقة في الدول العربية المحيطة، فعامل الاستقرار فيها مرهون بالقضية الفلسطينية.
إذن، أمام المجتمع الدولي، وواشنطن بشكل خاص خلال زيارة وزير خارجيتها جون كيري فرصة حقيقية لمعالجة المأزق السياسي على أساس عملي وواقعي.. وليس فقط إهدار الوقت كما حصل في كل مرة... الحماية الدولية أصبحت واجبة ومفتاح الحل.

abnajjarquds@gmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد