العمليات الإرهابية الكبيرة التي نفذتها "داعش" في لبنان وفرنسا والتي راح ضحيتها العشرات من المواطنين الأبرياء تثبت عدم فاعلية ما تسمى "الحرب على الإرهاب" التي يشنها التحالف الدولي الذي انشئ في أعقاب اندلاع الحرب المدمرة في سورية وظهور تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المسمى اختصاراً "داعش"، وإذا أردنا الدقة هي تثبت الأكذوبة الكامنة خلف هذا الشعار، فالحرب الوحيدة التي تشن ضد "داعش" هي تلك التي يقوم بها النظام السوري المدعوم من روسيا التي تدخلت عسكرياً بصورة ملموسة منذ عدة أسابيع، وأيضاً المعارك التي تجري على الأرض بين الفينة والأخرى بين فصائل المعارضة و"داعش" التي تهدد وجود بعضها وأماكن سيطرتها. كل ما قيل عن ضربات التحالف كان عبارة عن استعراض ومحاولة لبث أجواء مطمئنة للحلفاء.

في الواقع لا يمكن فهم محاربة "داعش" بصورة حقيقية بدون وقف تزويدها بالمال والسلاح والمقاتلين وهذا ممكن إذا كانت هناك نوايا صادقة وقرارات بفعل ذلك. فالمال يأتي من خلال تصدير النفط وبيعه في السوق السوداء وعدد لا يستهان به من الدول الشريكة في التحالف تشتري هذا النفط باسعار زهيدة وتساهم بشكل واضح في تمويل "داعش" الذي يصل سنوياً- حسب بعض التقديرات – إلى 750 مليون دولار، وآبار النفط التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" معروفة وطرق تصدير النفط عبر تركيا معروفة، كما أن السلاح والعتاد يصل إلى "داعش" عبر العراق من دول عظمى ودول إقليمية، ويكفي في هذا السياق التذكير بالسلاح الذي ألقي من الجو وسيارات "الهمر" وسيارات "تويوتا" ذات الدفع الرباعي. أما المقاتلون فهم يأتون من كل مكان إلى تركيا ويعبرون الحدود إلى سورية والعراق بوسائل نقل عادية وفي وضح النهار.
بعد الهجمات الإرهابية في باريس رأينا كيف أعلنت فرنسا الحرب وبدأت بشن غارات مكثفة وسيقوم الرئيس الفرنسي فرنسوا أولاند بلقاء الرئيسين الأميركي والروسي لتنسيق المواقف والقيام بحرب موحدة ضد "داعش"، وبالأمس القريب كان التدخل الروسي ضاراً. وما كان ينبغي أن تصبر أوروبا حتى تصلها النار حتى تتحلى بالجدية في محاربة "داعش" لأنه كان واضحاً منذ البداية أن أوروبا ستتأثر بما يجري هنا، ليس فقط لقربها الجغرافي أو لسيل اللاجئين الذي يصل لدولها، بل كذلك بسبب وجود أقليات كبيرة من أصول عربية وإسلامية فيها، وهؤلاء يتأثرون بما يجري في هذه المنطقة.
الحرب ضد الإرهاب تتطلب الخروج من دائرة عدو عدوي صديقي التي ميزت التحالفات الدولية، فالدول التي أرادت تدمير سورية واسقاط نظام بشار الأسد لم يكن يهمها التحالف مع "داعش" ودعمها بكل ما يلزم لتعيث فساداً في سورية وتدمر ما يمكن من مقدرات هذا البلد، بل إن "داعش" نفسها هي صنيعة بعض الدول المتورطة حتى النخاع في عملية تفكيك الدول العربية المركزية. وهذه الحرب تتطلب وضع مصالح دول المنطقة بالاعتبار والبحث عن قواسم مشتركة معها لا التفكير باتجاه واحد.
ولكن أهم ما يمكنه أن يساهم بصورة فاعلة في القضاء على التطرف والإرهاب هو اطفاء البؤر المشتعلة وتسوية الصراعات والنزاعات بصورة سلمية. وإذا كنا نتحدث عن هذه المنطقة فلا شك أن القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل يشكلان البؤرة الأكثر اشتعالاً وتأثيراً على العرب والمسلمين لأن الشعب الفلسطيني والأرض المقدسة يخضعان لاحتلال لا يقبله أحد، ويؤثر على كل من له صلة بالمنطقة سواء أكانت قومية أو دينية. وصدقت وزيرة الخارجية السويدية مارغوت وولستروم التي ربطت بين تفجيرات "داعش" في باريس وبين معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي. على الأقل بعض الذين ينفذون عمليات لديهم غضب على السياسة الدولية ضد فلسطين وأسلوب الكيل بمكيالين.
إذن، هناك حاجة لإظهار عدالة دولية في التعاطي مع قضايا المنطقة المتسارعة إلى تسوية نزاعاتها وصراعاتها بشكل سلمي لتخفيف حدة التوتر وإشاعة أجواء السلام والأمن والاستقرار. كما أن الحرب على الإرهاب تتطلب كذلك حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلدان الإقليم لاستثمار طاقات الشباب في كل ما هو إيجابي وبناء، فمعدلات البطالة العالية وعدم وجود أنظمة رفاه اجتماعي، وسيطرة أجواء القمع والتخلف ستقود إلى استمرار ظواهر التطرف والعنف والإرهاب، وهذا يعني ببساطة أنه لا يمكن القضاء على هذه الظواهر بمجرد القيام بحملات عسكرية أو أمنية مهما كانت عنيفة وقوية ومدمرة، لأن الإنسان هو العنوان. فهذا الإنسان يجب أن يشعر بنوع من المساواة والعدالة ويلمس أن حقوقه تحظى بالرعاية وتلقى الاهتمام ويحصل عليها في نهاية المطاف. فلا معنى للحديث عن الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان مع شخص جائع ومحتاج لأبسط مقومات الحياة، أو شخص تنتهك حقوقه على مدار الساعة.
وعلى أوروبا تقع مسؤولية كبيرة في مسألة الحرب على الإرهاب ليس فقط لأن أوروبا تتمتع بميراث أخلاقي ومعنوي قائم على حضارة عميقة، بل بالأساس لأنها تتحمل مسؤولية كبرى في مآسي هذه المنطقة من العالم لأنها كانت المحتل ولأنها ساهمت في نشوء الصراعات، وساهمت أيضاً في تخلف دول وشعوب عديدة. ولقد آن الأوان لتقف أوروبا وقفة حق وتستنهض ضميرها لتقول: كفى للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأن دعمها لإسرائيل وحرصها على مصالحها ينبغي أن يرتبط بإنهاء الاحتلال وحصول الشعب الفلسطيني على حقوقه، فالشعور بالذنب تجاه اليهود يجب الا يبرر ارتكاب جرائم ضد الشعب الفلسطيني، وعليها كذلك أن تتعاون مع روسيا ودول المنطقة لإنهاء الحرب المدمرة في سورية والتوصل إلى تسوية يقرر فيها الشعب السوري مصيره بنفسه، وأن تنظر للأقليات العربية والإسلامية فيها نظرة متساوية وتعمل على دمجها في مجتمعاتها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد