rn

مقولة القرار الوطني المستقل كمقولة لم تكن محلّ توافق من زاوية المعنى والأبعاد والمدلول المباشر.

rn

فقد اعتبر البعض أن القرار الوطني المستقل يعني الانغلاق على الذات الوطنية والانعزال عن ظروف الواقع المحيط.
يصنف هذا المدلول أو الأصح القول بأنه كان يصنف في عداد المواقف (اليسارية الطفولية) أو المفاهيم الراديكالية المتزمتة. في حين كان يصنف المفهوم «المائع» لاستقلالية القرار الوطني في عداد المواقف «اليمينية» التي تهدف إلى مصادرة القرار من حيث الجوهر بذريعة التشابك الموضوعي بين القضية الفلسطينية وبين محيطها القومي والإقليمي والدولي مع الإبقاء على هوامش شكلانية من هذا القرار.
وفي حين كان يعتبر المفهوم الأول تعبيراً عن حالة «إقليمية» بالمعنى القطري للكلمة كان يعبر المفهوم الثاني عن وعي وإدراك المحيط العربي والإقليمي والدولي عن الحاجة إلى احتواء الظاهرة الفلسطينية في اطار المفاهيم والسياسات والاستراتيجيات لهذه الأطراف الثلاثة.
على هذا الأساس فإن مقولة القرار الوطني الفلسطيني ليست مسألة نظرية بقدر ما هي حالة إبداع سياسي مميز وحالة قدرة فائقة في الأداء السياسي.
يعتبر الرئيس الراحل ياسر عرفات فارس هذا المفهوم بالمعنى الأدائي وبالمعنى العملي المباشر.
تفتّح وعي ياسر عرفات والمجموعة المؤسسة لحركة فتح على الخطر الذي مثله ارتهان القضية الوطنية للواقع العربي والدولي أثناء ثورة العام 1936 ثم «الدور» الذي لعبه جيش الإنقاذ في حرب النكبة .
فقد فهمت هذه المجموعة المؤسسة كما فهمت جماهير غفيرة من الشعب الفلسطيني أن غياب الإدارة الوطنية المستقلة ربما يكون أحد الأسباب الرئيسية لضياع فلسطين.
في الفترة الفاصلة بين النكبة والنكسة والتي توصف بأنها مرحلة البحث الفلسطيني عن الهُوية والإرادة الوطنية المستقلة عانت القضية الفلسطينية من حالة الوصاية والالحاق، وكان للمد القومي في هذه المرحلة ومنذ ثورة 23 يوليو وحتى النكسة ولما بعدها بسنوات الأثر الأكبر في ارتهان الإرادة الوطنية إما موضوعياً وإما بوعي ذاتي من قبل الفلسطينيين المنخرطين في الحالة «القومية». هذه الحالة لم تمنع ـ بل ربما أدت من بين ما أدت إليه ـ إلى نوع من التململ في بعض التجمعات الفلسطينية باتجاه أن يبدأ الشعب الفلسطيني الإمساك بناصية أموره، وأن يبادر إلى تنظيم صفوفه لانتزاع المبادرة التاريخية في التصدي لاحتلال أرضه.
فهم عبد الناصر آنذاك أن السيطرة على القرار الفلسطيني لم تعد سهلة وأن الفلسطينيين ماضون في شق طريقهم فبادر إلى تأسيس م.ت.ف بقيادة أحمد الشقيري، وبتأسيس جيش التحرير الفلسطيني أملاً في أن يظل القرار الفلسطيني في «الكنف» العربي ولكن دون مصادرته ودون الوصاية المباشرة عليه وإعطائه (أي القرار الوطني الفلسطيني) هوامش من شأنها المحافظة على نقطة توازن هامة كان يراها عبد الناصر ضرورية للمحافظة على المد القومي من جهة وعلى الحالة الناصرية الخاصة من جهة أخرى. في ذلك الظرف التاريخي الخاص أدرك عرفات ورفاقه أن المبادرة إلى الكفاح المسلح أصبحت أمراً ضرورياً لإعادة بعث الوطنية الفلسطينية وإعادة صياغة الهُويّة الوطنية، وتحديد الأهداف والحقوق الوطنية ورسم وسائل وآليات تحقيقها.
وبهذا المعنى بالذات فإن الزعيم الراحل ياسر عرفات يعتبر الباعث الرئيسي لهذه الروح وهذا المناخ وهو ورفاقه في ذلك الوقت تحملوا المسؤولية التاريخية لهذه المبادرة التاريخية. إذن كانت المبادرة لتأسيس فتح ولإطلاق الرصاصة الأولى هي أكبر وأهم محطة لبناء منظومة القرار الوطني.
أما المحطة الثانية فكانت ـ كما أرى ـ معركة الكرامة.
بالمعنى العسكري المباشر وحسب آراء الكثير من القادة العسكريين فقد كانت معركة الكرامة تحمل في طياتها مخاطر عسكرية كبيرة، وكان الإقدام عليها ينطوي على عناصر كثيرة من المغامرة بل وذهب بعضهم إلى اعتبارها معركة شبه انتحارية.
عرفات خاض تلك المعركة وفي ذهنه البعد السياسي للمعركة. لقد فهم عرفات بحسه السياسي المرهف وحنكته الوطنية أن الأنظمة العربية التي هزمت في حزيران لم يبق أمامها إلاّ تأييد الكفاح الفلسطيني، وان كل من يقف في وجه ظاهرة الكفاح المسلح سينهار، وان البطولة الفلسطينية ستؤسس لمرحلة جديدة من المد الشعبي والتأييد الكاسح على كل المستويات.
ويمكن القول هنا ان الظرف التاريخي كان مواتياً لفكر عرفات في هذه المرحلة. فقد سجل المقاتلون الفلسطينيون مع أبطال الجيش العربي الأردني الباسل معركة خالدة أدت إلى انطلاقة جديدة وإلى زخم شعبي كان يفوق كل تصور.
ارتفعت بصورة غير مسبوقة أسهم حركة فتح، وكرّس عرفات قائداً وزعيماً للحركة، وأصبح القرار الوطني والإرادة الوطنية في متناول اليد للمرة الأولى منذ النكبة.
أعاد عرفات تجسيد هذه الإرادة في معركة التمثيل الوحيد والمستقل للشعب الفلسطيني في قرارات الرباط، وجسّد هذه الإرادة في الدفاع عن هذا القرار في معركة طرابلس، بل وحتى في انفراده بعقد مؤتمر عمان لاحقاً، وظل يقاتل ويدافع عن استقلالية قراره في أحلك اللحظات وأصعبها.
في كامب ديفيد الثاني أعاد عرفات البطولة نفسها في الدفاع عن قراره الوطني، وعن ثوابته الوطنية ودفع حياته ثمناً لذلك، وحتى عندما ارتضى عرفات اتفاقيات اوسلو فقد كان القرار الوطني هو هاجسه وهو مبتغاه، وكان يعرف أكثر من غيره الأخطار التي تنطوي على تلك الاتفاقيات، لكنه أمل في نقل فلسطين من دائرة التاريخ إلى دائرة الجغرافيا السياسية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد