rn

تعرض الشعب العربي الفلسطيني، على مدى نحو قرن، إلى محن كثيرة، ومر بتجارب مريرة، إلا انه في غضون سنوات مأساته المديدة، تمكن من إبداع مظاهر كفاحية جديدة، عمقت من خبراته، وأغنت تجربته، وعززت من حضوره، على الرغم من تواضع إمكاناته، وضآلة الهوامش المتاحة أمامه، أمام قوة المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، وتفوقه الكاسح، نظراً لما كان يمتلكه المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي من روافع ذاتية وموضوعية، شكلت على الدوام مصادر مهمة لاندفاعه بزخم شديد، وهي:
أولاً: قدراته الذاتية، السياسية منها والاقتصادية، ناهيك عن خبراته العسكرية والتكنولوجية والاستخبارية المكتسبة، الأمر الذي مكنه من امتلاك موقع القوة، وأتاح له الإمساك بزمام المبادرة، في تعامله مع الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية.
ثانياً: دعم وإسناد الطوائف اليهودية المتنفذة في العالم لصالحه، وهو ما عرف لاحقا باسم جماعات الضغط (اللوبيات) الصهيونية، لاسيما في الولايات المتحدة الأميركية.
ثالثاً: الدعم المالي والسياسي والحماية الأمنية والعسكرية، والغطاء الدبلوماسي الذي وفرته بريطانيا سابقا، قبل أن توفره الولايات المتحدة فيما بعد.
إضافة إلى ما سبق ذكره، كانت أوروبا الاستعمارية قد وفرت كل الأسس اللازمة لقيام المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي على أرض الفلسطينيين، وخاصة إبان الانتداب البريطاني، حيث منحت بريطانيا وعد بلفور المشؤوم، وسهلت للحركة الصهيونية العمل على قيام الوطن القومي لليهود في فلسطين، كما اسهم السلاح الفرنسي، ثم أموال التعويضات الألمانية، بدور حاسم في استمرار تفوق "إسرائيل" على كل جيرانها العرب.
ومع ذلك، فقد ظل الشعب العربي الفلسطيني يمتلك مصادر قوة ذاتية، تجعله في حالة ندية نسبية، في إطار عملية المواجهة الجارية بين المشروعين والروايتين، أي بين المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني، والمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي.
مصادر قوة الشعب الفلسطيني تعتمد على العوامل التالية:
أولاً: العامل الديمغرافي، وهو أهم عوامل الصراع وسبب ديمومته المتواصلة، فقد فشل المشروع الإسرائيلي في طرد كل الشعب الفلسطيني عن وطنه، رغم محاولاته الهادفة لجعل الأرض الفلسطينية طاردة لشعبها، حيث إن هناك اليوم أكثر من ستة ملايين عربي فلسطيني على كامل أرض فلسطين. ففي مناطق الجليل والمثلث والنقب ومدن الساحل المختلطة بقي حوالي 150 ألف نسمة العام 1948، بات عددهم الآن يقارب المليون ونصف المليون نسمة، يشكلون حوالي خُمس السكان في مناطق 1948، وهناك مليونان وسبعمائة ألف نسمة في الضفة الفلسطينية بما فيها القدس ، ومليون وثمانمائة ألف في قطاع غزة ، مقابل ستة ملايين ونصف المليون يهودي إسرائيلي، ما يدلل على تقارب العدد الكلي بين طرفي الصراع.
ثانياً: استمرار مشاعر المظلومية، واشتداد مظاهر العداء من طرف كافة الشرائح الفلسطينية، سواء في مناطق 48 أو مناطق 67، للمشروع الاستعماري الإسرائيلي، اقله بسبب عنصرية الاحتلال، وإجراءاته الإحلالية الإقصائية، ومصادرة الأرض وجعل حياة الفلسطينيين قاسية، وغير محتملة، عناوينها اللجوء والفقر والاضطهاد الوطني والقومي، وفقدان الحق في تقرير المصير.
ثالثاً: شيوع مظاهر التعددية والتنوع بين الفلسطينيين، الفكرية منها والسياسية، وهي مظهر من مظاهر القوة إذا تم توظيفها بطريقة صحيحة، لأنها تحمي الفعل الفلسطيني والإرادة والسياسة من الوقوع في براثن التسلط والأحادية، التي عانت من آثارها البلدان العربية، فوجود "فتح" و" حماس " و"الجهاد" و"الشعبية" و"الديمقراطية" والشيوعيين والقوميين، عوامل صحية، وروافع قوة للمجتمع الفلسطيني، تجعل سياساته أكثر صواباً وواقعية، اعتماداً على اختلافات جهات النظر المتعددة.
رابعاً: انتزاع السلاح السياسي من مؤسسات الشرعية الدولية، بقرارات الأمم المتحدة بدءاً من قرار التقسيم 181، وقرار حق عودة اللاجئين 194، وقرار الانسحاب وعدم الضم 242، وقرار حل الدولتين 1397، وقرار خريطة الطريق 1515، وهي جميعها منصفة لصالح الشعب الفلسطيني، ترفضها تل أبيب لأنها تشكل سلاحاً بيد الفلسطينيين ضد التوسعية الإسرائيلية، وخيارها الاستعماري على أرض الشعب المعذب والفقير.
واعتماداً على هذه العوامل الأربعة، فجر الشعب الفلسطيني انتفاضاته الشعبية المدنية الأولى العام 1987، ومدها على كامل الأراضي المحتلة العام 1967، حيث حملت حصيلتها إسحق رابين، عبر مفاوضات أوسلو غير العلنية العام 1993، على التسليم والاعتراف بالعناوين الثلاثة: بالشعب الفلسطيني، بمنظمة التحرير، وبالحقوق السياسية المشروعة، وعلى أرضية هذا الاعتراف جرى الانسحاب التدريجي الإسرائيلي من الأرض المحتلة من غزة وأريحا أولاً، وتواصل من باقي المدن، وكان يُفترض أن تنتهي المرحلة الانتقالية بالانسحاب من مدينة الخليل في شهر أيار 1996، لتبدأ بعدها مفاوضات المرحلة النهائية.
غير ان اغتيال رابين في شهر تشرين الثاني العام 1995/ وفشل شريكه شمعون بيريس في انتخابات أيار 1996، وصعود اليمين الإسرائيلي المتطرف برئاسة نتنياهو، حال دون الاستمرار في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، وفشل اتفاق أوسلو في تطبيق خطواته التدريجية، وعلى الرغم من الانتقادات المختلفة التي يمكن أن تسجل على اتفاق أوسلو، فقد حقق الاتفاق، انعكاساً لموازين القوى المختلة، ما لم يحققه الشعب الفلسطيني من إنجازات من قبل، وأهمها نقل الملف الفلسطيني وعنوانه ومضمونه وأدواته من المنفى إلى الوطن، وبات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي محتدماً ومتشابكاً على الأرض الفلسطينية، وبأدوات فلسطينية في مواجهة عدو الشعب الفلسطيني مباشرة، هذا الشعب الذي لا عدو له سوى المشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، المحتل لأرض الفلسطينيين وحقوقهم، والمنتهك لكرامتهم.
قبل نهابة العام 2000، وعلى إثر فشل مفاوضات كامب ديفيد، في شهر تموز، بين ياسر عرفات ويهود باراك، برعاية الرئيس الأميركي الديمقراطي بيل كلينتون، انفجرت الانتفاضة الثانية، التي قادها التحالف الميداني بين حركتي فتح وحماس، وهو ما دفع شارون نحو التسليم بالرحيل الإسرائيلي عن قطاع غزة من طرف واحد، بعد فكفكة قواعد جيش الاحتلال وإزالة المستوطنات. وهكذا سجل الفلسطينيون انتصارهم الميداني والفعلي والواقعي على الأرض، بفعل نضالهم وبسالتهم وصواب خيارهم في تحديد الأولويات نحو مواجهة الاحتلال، موحدين بجبهة مقاومة واحدة، رغم قدراتهم المتواضعة أمام تفوق الاحتلال، الذي اغتال قائد "حماس" الشيخ أحمد ياسين والعديد من القيادات الحمساوية، وكذلك محاصرة الرئيس ياسر عرفات واغتياله وفقدانه، ليس فقط كرئيس مؤسس لحركة فتح بل وكزعيم تاريخي غير مسبوق للشعب العربي الفلسطيني، إضافة إلى اغتيال أبو علي مصطفى قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، واعتقال أحمد سعدات أمينها العام إلى الآن.
h.faraneh@yahoo.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد