بغضّ النظر عما ستسفر عنه المواجهات الحالية مع الاحتلال، وبغض النظر، أيضاً، عما ستتمخض عنه «الجهود» الدولية، وكذلك تلك الإقليمية من نتائج على صعيد محاولات الوصول إلى «تهدئة» سيكون أمرها مرهونا بعوامل لا يمكن التكهن بها، إلاّ أن من الثابت حتى الآن ومنذ الآن أن إسرائيل دخلت في مرحلة جديدة تتسم بالتخبط وانعدام الرؤية في أزمة إرباك غير مسبوقة وتشوش ربما يكون الأول من نوعه منذ عدة عقود إن لم يكن منذ قيامها وحتى الآن.
يعود هذا التشوش والإرباك ـ على ما أعتقد ـ إلى تراكمات أفضت في نهاية الأمر إلى ما أفضت إليه حتى الآن، وهي مرشحة لمزيد من تفاقم سوء أحوال إسرائيل وهي ـ أي التراكمات ـ لن تفضي في المدى المرئي سوى لمزيد من تعمق المأزق وتفاقم الأزمة.
فعلى مدى زمني يزيد على أربعة أو خمسة أعوام سابقة راهنت إسرائيل على ثلاث «مسلّمات» اعتقدت في ضوئها أن «الفرصة التاريخية» لفرض أجندتها قد أصبحت سانحة وفق تصوراتها الفكرية ـ الأيديولوجية، ووفق سياساتها الهادفة لفرض هذه التصورات، ووفق مصالح ومنظور مجموعة الأحزاب والقوى اليمينية واليمينية المتطرفة التي أصبحت تتحكم بالقرار السياسي فيها.
المسلّمة الأولى، هي هشاشة الوضع الداخلي وتعمق وتجذر حالة الانقسام الداخلي وازدياد اعتمادية الفلسطينيين على المساعدات الخارجية وانعدام الفرص الاقتصادية والاجتماعية لديهم، ما أدّى (من وجهة النظر الإسرائيلية) إلى حالة استكانة «تحولت» إلى تسليم بالأمر الواقع أو محدودية الوسائل والأساليب للاحتجاج على واقعهم.
أما المسلّمة الثانية، فهي هذا الحجم الهائل من الدمار الذي وصلت إليه الحالة العربية والحروب التي دمرت دولاً كثيرة ومزقت مجتمعات بكاملها، وهو الأمر الذي يوفر لإسرائيل فرصة نادرة للاستفراد بالفلسطينيين وفرض إرادتها عليهم.
أما المسلّمة الثالثة، فتمثلت في الاعتقاد الإسرائيلي بعجز المجتمع الدولي وافتقاده إلى الرغبة أو الإرادة الكافية بردع إسرائيل، خصوصاً وأن كل «جولات» التحدي التي للمجتمع الدولي بما في ذلك التحدي للإدارة الأميركية لم تؤد إلى ردة فعل رادعة ولو لمرة واحدة، وهو الأمر الذي اعتبرته إسرائيل بمثابة عامل مساعد على المضيّ قدماً في برنامجها الاستيطاني وفي كل سياسات التهويد والنهب التي تمارسها.
انطلاقاً من تصورات إسرائيل لهذه المسلّمات وفي ظل انعدام أية حالة ردع لسياساتها وفي ضوء تحوّل الاحتلال إلى حالة «معتادة» و»هادئة» باشرت إسرائيل بهجوم استيطاني وتهويدي غير مسبوق وتحول المستوطنون إلى رأس حربة في هذا الهجوم.
نقطة التركيز الرئيسية في هذا الهجوم الإسرائيلي الشامل كانت مدينة القدس وتم استحضار الفكر القومي الديني بأكثر نسخه تطرفاً ورجعية وعنصرية فيما يتعلق بالمسجد الأقصى تحديداً. الأمر الذي «حسم» التوجه الإسرائيلي وحوّله إلى خيار «نهائي» هو هذا الانزياح غير المسبوق للجمهور الإسرائيلي نحو المزيد من اليمينية والتطرف والغطرسة، وهذا الفراغ الذي تعيشه إسرائيل للمرة الأولى في تاريخها لجهة وجود معارضة جادة وقيادة بديلة عن الصف القيادي اليميني في إسرائيل.
للمرة الأولى في تاريخ إسرائيل تتحول المعارضة الفاعلة، من منطقة المركز أو الوسط أو من منطقة ما يسمى باليسار إلى منطقة أقصى اليمين.
المستوطنون هم عنصر التوازن الرئيسي في المعادلة اليمينية القائمة والصراع الحقيقي في إسرائيل في ظل الانزياح الذي أشرنا إليه، هو صراع على الطريق الذي يحقق للمستوطنين أهدافهم وعلى الوسائل التي يتم اعتمادها للسير قدماً في هذا الطريق.
أما الوسط و»اليسار» فليس لديهم على ما يبدو القدرة على مواجهة الشارع المتطرف لأنهم ليسوا على استعداد لمواجهة موجة الجنون القائمة في إسرائيل اليوم، كما لم يكونوا على أي استعداد لمواجهة التطرف الذي يضرب إسرائيل منذ سنوات عديدة.
لهذا فإن خروج إسرائيل من حالة الإرباك التي تعيشها ربما سيؤدي فيما سيؤدي إليه إلى جنون أكبر بكثير من حالة الجنون القائمة.
يستطيع المجتمع الدولي إن رغب وامتلك الإرادة أن يكبح جماح هذا الجنون ويستطيع الوضع الإقليمي إن امتلك الشجاعة أن يردع إسرائيل ويوقفها عند حدود ما قبل الهاوية، ولكن انتظار أن يتم وقف الحالة الهستيرية فيها بدون مثل هذا التدخل هو أمر مستحيل مع الأسف.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية