لأن السياسة لا تعرف الثبات باعتبارها واحدة من جزيئات الحياة المتحركة كان لا بد من فعل كبير يوازي محاولات فرض «الاستاتيكو» الاحتلالي الذي سعت له كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إذ تكمن قيمة الأحداث الهائلة في الأسابيع الثلاثة الماضية أنها أحدثت انقلابا كبيرا لمكانة الملف الفلسطيني الذي بدا قبل أشهر قليلة أنه ينزاح من على الطاولة نحو الأدراج.
لقد شق مهند الحلبي ورفاقه الشهداء الأفق ليعيدوا القضية إلى صدارة المشهد الدولي وما بين إحباط الرئيس أبو مازن قبل شهرين والحديث عن رغبته بالتنحي نتاج تجاهل العالم للاحتلال وما بين مؤتمره الصحافي الأخير مع الأمين العام للأمم المتحدة وهو يهاجم نتنياهو فارق هائل صنعته الأحداث الأخيرة التي وضعت في جيبه أوراق قوة جديدة جعلت هاتفه لا يتوقف عن الرنين، هكذا هي السياسة، ممكنات قوة استدعتها إرادة هائلة كامنة في صدور الشباب في لحظة الطوارئ الوطنية.
العمل العسكري هو امتداد للسياسة بوسائل أخرى بالرغم من أن العمليات التي امتدت على مساحة الأسابيع الثلاثة الماضية لم تكن عملا عسكريا خالصا ولا عملا جماهيريا واضحا إنها وقعت بين الاثنتين وهذا ما أربك إسرائيل وأصابها بالعجز عن مواجهة الظاهرة، لكن طالما أن هناك دماء وشهداء يمكن توصيفها بأنها أقرب للعمل العسكري الضاغط على المحتل لأنه يدفع خسائر بشرية ومادية وهذا هو وظيفة الضغط المسلح إلحاق خسائر لإرغام المحتل على الانسحاب وإعادة التفكير ودون ذلك يبقى الفعل في إطار الحالة الانتقامية الغرائزية لكن الشعب الفلسطيني له مشروعه السياسي الذي يتجند له قواه شيبا وشبابا.
السؤال المطروح وماذا بعد؟ وبعد هندسة العلاقة مع المحتل منذ عقدين بأن الحل بإقامة دولتين يمكن فقط من خلال المفاوضات وبعد تجربة العمل العسكري في الانتفاضة الثانية وثلاث حروب على غزة ورغبة العالم بتسوية على الطاولة .. بعد هذه الأحداث لا شك وأن الجميع لن يبتعد عن الرغبة بالعودة للمفاوضات من جديد بالرغم من التجربة الطويلة في هذا المسار الذي لم ينجح كما قال ناحوم برنياع «سوى بخلق مزيد من كراهية الفلسطينيين للإسرائيليين كرستها مأساة مسيرة أوسلو، بدلا من تبديد الكراهية فاقمتها فقط».
التاريخ هو أكبر معلم بل هو المعمل الهائل للتجارب الإنسانية وقد قال كلمته في المفاوضات .. لقد فشلت ولم تكن أكثر من لعبة علاقات عامة انتهت بالعبث لأن العالم الذي يجيد لعبة السياسة تعامى عن فهمها عندما تعلق الأمر بالفلسطينيين، فقد أراد التوصل لحل بالمفاوضات تاركا الطرفين يتفاهمان حول ذلك وبهذا ترك الفلسطيني الضعيف يتفاوض تحت ميزان القوى المائل بشدة لصالح إسرائيل، فهل يمكن أن يكون مقبولا أن كل ما ينتج عن عمليات الأسابيع الثلاثة هو عودة للمفاوضات التي سيلعب الإسرائيلي لعبته التاريخية من عبث «الدولة اليهودية» و»دولة منزوعة السلاح» وغير ذلك؟ إنها تجربة لا يحتملها الفلسطيني من جديد بل إن الإرادة الفلسطينية تمردت عليها.
يمكن للقيادة الفلسطينية أن تتكئ على هذه الإرادة التي تجسدت في القدس و نابلس والخليل وكل شوارع الوطن، أن تتمكن من استثمار أقصى ما يمكن استثماره بإحداث انعطافة كبيرة للمسار الذي فرض مستندا لموازين القوى .. الخوف أن تتمخض هذه الانتفاضة من عودة لمفاوضات ثنائية تعيد التجربة الطويلة السابقة وتمكن إسرائيل من فرض وقائع على الأرض وليس لدى إسرائيل مشكلة في البدء بمفاوضات قد تستمر لعقدين قادمين طالما أنها تتلاعب بالوقت وتستند لقوتها فهناك ما يمكن فعله.
خلال أحداث الانتفاضة انشغلت النخب السياسية بالتفكير كيف يمكن أن تشكل إنجازات الميدان رافعة للسياسة الفلسطينية، وأبرز ما قدم هو ما طرحه اثنان من كبار السياسيين الفلسطينيين بحكم تجربتهما، الأول رئيس الوزراء السابق سلام فياض والآخر عضو اللجنة المركزية لحركة فتح ووزير الخارجية السابق ناصر القدوة فقد تقدم كل منهما بمبادرة يمكن التدقيق بها أو النقاش حولها في إطار النهوض بالحالة الوطنية التي كادت تصاب باليأس قبل أسابيع فقط.
ففي حين يدعو فياض إلى اعتماد مبدأ الندية والتكافؤ مع الإسرائيلي على أساس الاعتراف بحقوقنا الوطنية مشيرا إلى أن مدخل التسوية كان يعطي للرواية الإسرائيلية تمتعها بالأفضلية من خلال الاعتراف بحق إسرائيل قابله اعتراف بحق تمثيل المنظمة فقط هذا يجب أن يستند إلى جملة إجراءات كما كتبها رئيس الوزراء السابق لإعادة صياغة العلاقة الداخلية كأحد مرتكزات القوة لدى الفلسطينيين من خلال برنامج قادر على توحيد الفلسطينيين وفقا لمبدأ الشراكة الوطنية يستند لتجربة ديمقراطية في انتخابات حرة ونزيهة في فترة لا تتجاوز ستة أشهر .. هذا البرنامج يلفت النظر إلى أن إسرائيل لم تقبل حتى اللحظة بقبول حق الفلسطينيين في دولة مستقلة بل ويذهب أبعد حين يكتب أن المجتمع الدولي أيضا لم يتوقع من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة هذا القبول.
أما ما قاله القدوة ارتباطا بتجربته الطويلة في الأمم المتحدة فينبغي الإصغاء له باعتباره يشكل مسارا جديدا وواقعيا أيضا بعد تجربة المفاوضات الثنائية التي انتهت إلى هذا الحد من الفشل والحروب والطعن والاستيطان وكل ما يوفر أجواء الصدام بدل السلام، إذن، هناك حاجة لتغيير المسار من خلال إعادة الملف للمجتمع الدولي الذي وقف مراقبا للتجربة الفاشلة مدركا أو غير مدركا لمآلاتها العنيفة ومن يراقب انزياح المجتمع الإسرائيلي يمينا ويعكس حكومات مثله يدرك أن الوقت يمر معاكسا للتسوية وأسسها بل نحو انفجارات متتالية.
هناك تجربة مفاوضات معقدة ولكنها نجحت في الملف الإيراني .. يقول القدوة لماذا لا نحيل المفاوضات مع إسرائيل للمجتمع الدولي ولماذا علينا أن نقبل مواجهتها سياسيا لوحدنا .. فلنتوقف عن ذلك ونكلف المجتمع الدولي بالتفاوض مع الدولة العبرية وهذا اقتراح ممكن إذا ما توقف الفلسطينيون أمامه، يمكن تغيير المسار أو على الأقل ضغط العالم، فلتفاوض الرباعية حكومة نتنياهو على حل الدولتين على أساس الرابع من حزيران كما جاء في خطاب أوباما.. ويمكن إضافة مصر للرباعية الدولية لتمثل الجانب العربي خاصة أن لها تجربة هي الأبرز عربيا في التفاوض مع إسرائيل.
هل يمكن أن تمارس إسرائيل العبث مع وفد المجتمع الدولي وتفاوضه لعقدين آخرين؟ ليس مهما إذا كانت تستطيع خداعهم .. بل يمكن لذلك أن يضع سقفا زمنيا لإنهاء المفاوضات على نمط التفاوض مع إيران .. إن للمجتمع الدولي قوة الضغط على إسرائيل حين يجلس على الطاولة وليس مثل الفلسطيني الذي يجلس مجردا من كل شيء، إن المجتمع الدولي شريك في جريمة تبديد الزمن والدم وحيث اتضح أن لا حل مع إسرائيل فما بالنا بحكومة نتنياهو ـ يعلون ـ بينيت ـ شكيد ـ اردان ـ ساعر ـ حوتبيئلي، إن القبول بالعودة للمفاوضات يعني مزيدا من التبديد .. العالم اعترف للفلسطينيين بدولة ورفع علمها أمام مبنى الأمم المتحدة فليكلف بالتفاوض لتحقيق ذلك حتى لا نتحمل مسؤولية الفشل فليجرب مفاوضة إسرائيل ولنرَ بماذا سيخرج.
لحظة اليأس أصبحت خلفنا منذ خطاب الرئيس بالأمم المتحدة وخيار الميدان شق الطريق نحو الأفق، لا عودة للوضع السابق، هناك إجماع على ذلك أوله الرئيس أبو مازن الذي يستبد به الغضب ولن يقبل بالعودة للسابق، هكذا يدور الحديث في المقاطعة، هذا الإجماع بذاته الاستثمار الحقيقي للانتفاضة التي وضعت ورقة القوة على الطاولة .. دعوا العالم يفاوض إسرائيل نيابة عنا فهو يملك وسائل عقابها إذا ما خدعته ..!
Atallah.akram@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد