بين عدستي ياسر وعلي.. حوار وداع لا يُكتب إلا بالدم!
غزة / خاص سوا / بهدوء.. وضعوا المُصاب يحيي حسان على فراشٍ أرضي. ألتقط أنفاسه منتظرا إحضار جثة طفلته رهف التي أرتقت مع أمها نور في قصف إسرائيلي لمنزلهم جنوب حي الزيتون، ليلقى عليها نظرة أخيرة مصحوبة بُقبلة.
اقتربت جثة رهف الذي لا يجيد وجهها إلا نفث البراءة إلى حضن والدها؛ وبسرعة خطفها بيديه الذي اعتلت عليهما الجروح بالغة، وراح يُقبل جبينها بهوس.
سكون في المكان. الجميع ينظر ولا يحرك ساكنا. فقط يمعنون النظر في احتضان يحيي لرهف.
لحظات.. وبدأ حوار وداع؛ لربما تقف لغات الأرض عاجزة عن إيجاد معجم أو مصطلح يقف على مأساته:" يا بابا أصحي، أنا بدي إياكِ يا حبيبتي". أما رهف كانت نائمة، فهو يعلم جيدا أنها لن تصحو ويُيقن أنها تحلق فوق عرش الرحمن، ولكن ألم الفراق لم يترك للواقعية مكانا.
يصمت بُرهة.. ثم يعود ينادي : " يا رهف أصحي راح أجبلك الحاجة ".. وهكذا.
تلك اللوحة الفلسطينية المؤلمة التي لا تصلح إلا أن تكتب بدم، قنصتها عدسة المصور الصحفي ياسر قديح، أثناء تغطيته لجنازة شهداء عائلة حسان التي ارتقت في قصف إسرائيلي في العاشر من الشهر الجاري.
مختصرا يوصف الزميل ياسر هذه الحادثة: " وجهت عدستي إلى يحيي حين احتضن طفلته، وبدأت اضغط زر الالتقاط، كان المشهد مؤلما جدا؛ صراخه لا زالت تدوي في رأسي حتى اللحظة".
تلك الصورة أو المشهد الذي التقطه ياسر عنونها الصحافيون والناشطون بـ وداع رهف، من خلال منشوراتهم ومواضيعهم الصحافية.
عائلة حسان المكونة من أربعة أفراد وخامسها لم يبصر النور بعد، أصبحت مقتصرةً الآن على يحيى حسان وابنه محمد بعدما شاهدا ليلةً شعواء مسحت ملامح الحياة دون رحمة، حين استشهدت الزوجة الحامل نور ورهف الصغيرة.
بعد أيام وفي مدينة النخيل دير البلح وسط قطاع غزة، حمل أصدقاء الشهيد أحمد السرحي نعشه على أكتافهم وتوجهوا صوب منزله لتلقى عليه عائلته نظرة الوداع قبل أن يوارى الثرى.
وضعوا أحمد في صدر المنزل الذي ارتقى حين قنصه أحد الجنود الإسرائيليين المتمركزين على الشريط الحدودي من غزة ، وراحت عائلته تمسح وجهه بالوادع الأخير. جاءت أمه ثم زوجته وأخته وعمته وهكذا.
وقبل خروجهم به.. جاؤوا بطفلته الوحيدة لتقبل رأسه قبل أن يذهب. هنا كانت لوحة عصيبة تشبه حكاية عائلة حسان، ولكن بوجه عكسي، فهذه المرة الطفل ينادي على والده بأن يستيقظ لاحتضانه.
مشاهد وداع أليمة في أيام قليلة تصدرها غزة للعالم. اقتربت الطفلة من وجه والدها تذرف دموعها وكأنها تنادي: يا بابا اصحى بدي اياك. يا بابا أنا بحبك. دقائق استمر هذا الحوار. تبكي الطفلة ثم تنادي. والأب صامتا لا يحرك ساكنا.
حوار وداع الطفلة لوالدها. كان قد وثقه المصور علي جاد الله؛ وفي أثناء حديثنا مع علي يقول : " حوار الطفلة مع والدها الشهيد كان مؤلما جدا، أردت تدوينه ليعرف العالم المعاناة التي يتكبدها أهل غزة المحاصرين".
حوار عكسي لصورة وداع الوالد يحيي لطفلته رهف، وصورة وداع الطفلة السرحي لوالدها أحمد، ولكن اجتمعا في عوامل كثيرة، أهمهما أن القاتل واحد كذلك الدم هو الوحيد القادر على توثيقهما.