هناك دعوات صريحة ومبطّنة لعسكرة هذا الغضب الفلسطيني وتحويل هذه الموجة العارمة من الحراك الشعبي إلى حالة مسلّحة بصريح العبارة.
وهناك دعوات معظمها يأتي من الخارج تدعو إلى تسليح هذه «الهبّة» والتحوّل نحو استخدام السلاح على نطاق واسع.
يترافق ذلك مع «تقارير» إسرائيلية عن نيّة حركة حماس القيام بعمليات تفجيرية، وكذلك فصائل إسلامية أخرى، وهناك محاولات صريحة ومبطّنة لتسويق هذا الشكل في هذه المرحلة «المبكّرة» من هذا الحراك وباستعجال وتسرّع ملفت للانتباه ومثير للشك والريبة على حدٍّ سواء.
نحن هنا بطبيعة الحال يجب أن نفرّق بشكل كبير ما بين استخدام الأدوات البسيطة وفي إطار الرد على جرائم الاحتلال وما بين التوجه نحو عمليات تفجيرية توجّه للمدنيين الإسرائيليين وليس للجيش أو المستوطنين.
كما لا يجوز أن لا نفرّق ما بين استخدام السلاح مهما كان نوعه في حالة الرد والدفاع عن النفس وما بين استخدامه بصورة مباشرة بهدف قتل المدنيين بغض النظر عن كونهم جزءا من منظومة الاحتلال أم لا.
إن «العودة» إلى موّال عسكرة هذه الهبّة في هذا الوقت بالذات وبهذه السرعة وبهذا الاستعجال والتسرع ليست مسألة مشاعر جيّاشة عند أصحاب الدعوات التي أشرنا إليها، وليست القضية هنا هي قضية انتقام، وهي أبعد بكثير من أن تكون حالة انفعال سياسية.
هذه الدعوات حتى وإن كان جزء ـ صغير أو كبير ـ من الجمهور الفلسطيني، ربما لا يمانع من قيامها بل ويؤيدها بصورة مباشرة تهدف إلى أبعد من كل ما ذهبنا إليه.
أصحاب هذه الدعوات على قناعة تامة أن عسكرة هذه الهبّة بالمعنى الذي يرغبون به هو سلاحهم من أجل خلط كل الأوراق، والذهاب إلى حال تؤدي في نهاية المطاف إلى تفكيك الحالة الفلسطينية وتعريض كل منجزات الشعب الفلسطيني للاستهداف الإسرائيلي المباشر، وتحويل كل الساحة الفلسطينية إلى حالة من الفلتان والفوضى وهو الأمر الذي سيكرّس هؤلاء الذين يمتلكون ناصية الأعمال العسكرية كطرف وحيد أو مهيمن على الشارع الفلسطيني.
وبعض هؤلاء الدعاة متحمسون بصورة خاصة لعسكرة هذه الهبّة في الضفة و القدس في حين أن مثل هذا الحماس فاتر تماماً حين يتعلق الأمر بقطاع غزة ، وفي هذا الموقف بالذات مفارقات ليس بعدها من مفارقات.
إضافة إلى هذه الأهداف المباشرة لأصحاب هذه الدعوات هناك مع الأسف من لا يريد أن يتّعظ من تجربة الشعب الفلسطيني ويصرّ على ليّ عنق الحقيقة.
يعرف هؤلاء أن الانتفاضة الوطنية الكبرى في العام 1987 قد أحدثت زلزالاً سياسياً في إسرائيل، وأربكت قادتها، ووحدت الشعب الفلسطيني كما لم يكن موحداً قبلها ونالت تعاطفا دوليا وعربيا وإسلاميا لم يسبق ان احتشد لمصلحة العدالة والحق الفلسطيني.
ويعرف هؤلاء ـ أو من المفترض أن يعرفوا ـ أن تلك الانتفاضة لم توحّد الإسرائيليين على الاطلاق بل انها خلقت شروخا غير مسبوقة في الجسم الإسرائيلي، ولم يكن سلاح الانتفاضة في ذلك الوقت سوى حجر.
أما الأسلحة الاستراتيجية الكبيرة التي كانت بوزن أسلحة الدمار فقد كانت المشاركة الشعبية العارمة، والتنظيم الذي تحوّل إلى قوة جبّارة في مواجهة الاحتلال. وقد أدت تلك الانتفاضة إلى منجزات تعتبر بكل المقاييس الوطنية معجزات سياسية، ولولا تلك المنجزات المعجزات لما تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من دخول مرحلة التسوية باسم الشعب الفلسطيني ولما تمكنت من التوحد في مؤتمر الجزائر.
أما حين تم عسكرة الانتفاضة الثانية بصورة سافرة فقد تم تدمير منجزات الشعب الفلسطيني بصورة مباشرة، وتم «وصم» نضالنا التحرري بالارهاب وأُرغِمنا على «تنازلات» حتى وإن كانت تكتيكية كنا في غنىً عنها لو أننا لم نمكّن إسرائيل من البطش بنا.
وتجربة الانتفاضة الثانية تجربة قاسية، فقد بدأت سلمية وجماهيرية وانتهت إلى ما انتهت إليه لأننا لم «ندرك» الأخطار المحدقة بنا جراء عسكرتها آنذاك. أما بالقياس إلى طبيعة الائتلاف الحاكم في إسرائيل فحدّث ولا حرج.
نحن في الواقع أمام حكومة ترى في استباحة حقوق الفلسطينيين مهمتها الأولى، وترى في الاستيطان محور حياة الدولة الإسرائيلية، وترى في المستوطنين الروّاد الجدد للمشروع الصهيوني وطلائع تجديد حياة هذا المشروع.
حكومة تنظر إلى الفلسطيني باعتباره عنصراً طارئاً في هذه الأرض والمطلوب قمعه وقتله وتهجيره وتحويل حياته إلى جحيم، لكي يهاجر أو يهجّر ولكي يستعبد أو يموت.
هذه الحكومة تمتلك جيشاً من أعتى جيوش العالم، وتمتلك أكثر من 600 ألف مستوطن غالبيتهم على ما يبدو تحمل السلاح ويمكن أن تتحول إلى جيش جرّار من القتلة والمجرمين.
فهل يدرك أصحاب عسكرة الهبّة الجماهيرية أن مثل هذا الواقع يشجع على عسكرة هذه الهبّة؟
وهل المجتمع الدولي مستعد أو جاهز لردع هذا البطش الإسرائيلي؟ وهل الواقع العربي صحي إلى هذه الدرجة؟
وإلى أين يريد هؤلاء أن يجرّوا الشعب الفلسطيني إذا كان هذا هو الواقع المحيط؟
أما الخطر الآخر فهو ليس داهماً على ما أرى حتى الآن وهو خطر التراخي في مواجهة الاحتلال.
هذه الهبّة ولدت من رحم الشعب، وهي أساساً هبّة تحاول الانتصار للكرامة الوطنية، وتحاول التمرّد على الأمر الواقع الذي حاولت إسرائيل أن تكرّسه في السنوات الأخيرة تحديداً، وهي محاولة وطنية أصيلة لبعثرة وتمزيق كل أوراق اللعبة الإسرائيلية، وهي تنجح رويداً رويداً، وإذا ما تم التخلّي عنها فسندفع ثمناً سياسياً أكبر من ثمن المعاناة التي نعيشها في ظل هذا الاحتلال.
حماية هذا الغضب أصبح واجب كل وطني، وسائله وأساليبه وتنظيم نشاطاته هو واجب كل مسؤول وطني، وأما الدعوة إلى العسكرة أو التراخي فهي ليست سوى نوع من اللعب في الملعب الإسرائيلي مهما كانت النوايا ومهما بلغ حجم هذا الغضب.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية