في مؤتمر إحياء ذكرى الشهيد خليل الوزير أبو جهاد أواخر الثمانينات بطرابلس الغرب, لفت أسامة الباز مستشار الرئيس مبارك آنذاك أنظار المؤتمرين إلى أن الانتفاضة (الأولى) كانت "مبادرة شعبية وهذا جوهر قوتها. فاجأت السياسيين والمراقبين, وأربكت الحسابات المحلية والدولية وحركت المياه الراكدة ... شعب فلسطين رفض تسليم أمره لأحد, قرر بنفسه أن يجرب, أن يبادر, وقد نجح . وظل السؤال: ماذا يريد الشعب والى أين يسير؟ هل يستطيع ..؟ ثمة من بحث في الدوافع وثمة من اجتهد في وضع النتائج . لكن الشعب قرر. الشعب أراد".
مضى المستشار المصري إلى ذمة الله ولم يدرك أحدٌ أن مقولته التي مرت كسحابة صيف ستصبح فيما بعد شعار مرحلة عربية.
كان الحجر سلاح الانتفاضة الأولى, وصار السكين والحجر سلاح الثانية. لم يخطط أحد ولا يستطيع أن يزعم انه اختار لها سلاحا. انتفاضته العفوية شكلت وثيقة إدانة لعالم يتنكر أو يشيح ببصره عن احتلال شعب. لا فرق بين ما يحدث لنا, وما يحدث لضحايا داعش من حرق وقتل وتهجير وإذلال تجاوز قدرة الإنسان على التحمل , ووصل حد المقدسات . مثلما حسمت خلافا بين المتنازعين من الفصائل على السلطة وعبثية الحوار مع الاحتلال سواء بالكلمة أو الصاروخ غير ذي الفاعلية .
الشعب قرر وأراد بمعزل عن موقف الفصائل حتى التي صدعت رؤوسنا بالمقاومة. نصل السكين صار أقوى من أطنان الصواريخ , وفتيان الجينز الساحل والشعر المنتصب كعرف الديك وقد " تجلل" هم المتحدثون الرسميون لما يجري على الأرض . يفعلون ولا يقولون . الفعل أقوى من الكلام , والسكوت من ذهب .
" الشعب يريد " . صار أحد أكثر المصطلحات تداولا في خطابات السياسيين العرب واللاهثين وراء السلطة . صارت كلماته تنتزع من سياق لتقرن بسياق آخر , وتشحن بدلالات جديدة . صار الكل يتحدث باسم الشعب . الكل ينصب نفسه ناطقا باسمه : مَنْ يفرض الضريبة على الشعب يقول إنها لمصلحة الشعب . ومَنْ أعوزته الحجة والبرهان يزعم أن الشعب يريد . مَنْ أراد تزييف الوعي وقلب الحقائق يدعي أن الشعب يريد . مَنْ يرغب في إزاحة صديق من طريقه رفع الشعار . مَنْ رغب في تحصين قلاعه من رياح عاتية ومَنْ راح يعمل على إزاحة الخصوم فاستبعد وأقصى وكفّر واستأصل .. يرفع الشعار أيضا .
كل هؤلاء وغيرهم , باسمك يا شعب , يفرضون علينا الوصاية من جديد . ينصّبون أنفسهم أولياء ويقررون مصير البلاد والعباد. . وباسمك يا شعب يستشري الفقر وتُسرق الأحلام .
حتى القيادي في حماس الشيخ حسن يوسف صار ناطقا باسم الشعب فنام وجاءته " البشارة " ( .. ) باستدارة الانتفاضة نحو السلطة الوطنية واشتباك الشعب معها إذا ما " عرقلتها" الأجهزة الأمنية, لأن الانتفاضة , كما قال القائد الشيخ , دخلت مرحلة كسر العظم !!.
يا الله ! متى يأخذ هؤلاء إجازة من عقولنا وأرواحنا ويتركوا الشعب يقاتل بطريقته, ويحكي بلغته. الفدائي الجديد ليس انتحاريا يمر بمرحلة غسيل دماغ فصائلي. الفدائي الجديد مصمم على المضي في طريقه حتى الشهادة . اغتسل وصلى الفجر ثم مضى يحمل همه وصرخته , وما تيسر من " سورة العائد " التي رسمها محمود درويش. صورة البرغوثي وسعدات خلف القضبان يبتسمان في عينيه. جثامين الشهداء ماثلة أمامه . آهات الأمهات وأنين الجرحى يضغط على قلبه . السماء فوقه تبارك خطواته رعداً وبرقاً ومطراً . لا مكان محدد , فكل الأماكن هدف. لا شخص بعينه هدفا , فكل مدنِسٍ فوق الأرض المغتصبة هدف , لكنه يخشى اغتياله قبل انفجار غضبه واستلال سكينه.
قد لا تكون السكين قادرة على القتل بقدر التخويف. السكين رسالة . والهدف تحقق، والأقصى مقدسّ . لكن ثمة من لم تصله الرسالة بعد. العالم الذي سكت عن كل ما يجري في سوريا وليبيا .. عن تمدد الدواعش شمالا والحوثيين جنوبا لن يتحرك بوازع من ضمير للجم الجنود والمسعورين في القدس . لذلك قرر البنطال الساحل والشعر"المجلل" أن يستمر حتى تتدحرج القضية الفلسطينية في اتجاه إدخالها المكاتب الفسيحة في القصور الرئاسية ومقرات الأمم المتحدة, فهل نحن قادرون على أن نكمل مسيرتنا نحو الهدف مرة واحدة دون توقف في منتصف الطريق؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية