من يتابع المشهد الإسرائيلي يلاحظ بسهولة حالة الهلع والرعب التي ألمت بالمواطنين وهم يفقدون الأمن الشخصي ويشعرون أن كل واحد منهم معرض لأن يتلقى طعنة سكين أو ربما رصاصة حتى لو كانت عمليات إطلاق النار محدودة جداً، فالخوف يسيطر على الإسرائيليين ويجعل جزءا كبيرا منهم وخاصة في القدس والمدن المختلطة يغادرون طقوس حياتهم اليومية ويتنازلون عن الكثير من سلوكهم وتصرفاتهم التي اعتادوها في الأيام العادية. وصار أي إنسان يحمل ملامح شرقية هو بمثابة فدائي محتمل أو «إرهابي» كما يقولون، وليس غريباً في ظل هذه الحالة من الهلع والهستيريا أن يتعرض مواطنون إسرائيليون يهود للاستهداف وأحياناً القتل كما حصل مع بعضهم في القدس وفي مناطق أخرى غيرها. ولعل تنفيذ الإعدام الميداني بحق المواطن الإريتيري في بئر السبع هو التعبير الأصرخ عن حالة فقدان القدرة على الحكم والتصرف التي تعيشها الجماهير الإسرائيلية والتي ساهمت فيها الحكومة والسلطات الأمنية بصورة كبيرة من خلال الدعوة للتسلح وإطلاق النار بهدف القتل حتى عندما لا تكون الضحية في وضع يهدد بالخطر كما في كثير من حالات الفلسطينيين الذين جرى قتلهم.
اليمين الإسرائيلي نجح في جعل إسرائيل بكاملها تفقد الاتزان وتذهب إلى أقصى درجات التطرف من خلال تأكيد أن الحكومة وأجهزتها غير قادرة على التعامل مع هذه الموجة الجديدة والمفاجئة من الفعل الفلسطيني الذي بادر إليه شبان صغار تحت سن العشرين من العمر. فرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو صرح أكثر من مرة بأن الحكومة لا تملك حلولاً سحرية للوضع وعبر عن عجز الحكومة على إيجاد الأجوبة الشافية لتساؤلات المواطنين. وعليه شعر الإسرائيلي العادي أنه من يترتب عليه أخذ القرار الميداني والتصرف، وهذا عدا عن أنه يطلق يد المواطن في استخدام السلاح وحتى التنكيل بالضحايا، فهو من جانب آخر يدعه أسير مشاعر الخوف والرعب بكل ما يترتب عليها من سلوك نشاهده في الأشرطة المسجلة عن حالات الهرب والارتباك التي تلازم كل عملية طعن أو غيره يتعرض لها جنود أو مواطنون.
لكن الشيء الأكثر أهمية هو أن إسرائيل حكومة وأحزابا وجماهير يفكرون في شيء واحد فقط وهو كيفية القضاء على هذه الموجة من المواجهات والعنف ولهذا تكثر النصائح الأمنية التي تركز على معاقبة الفلسطينيين فردياً من خلال القتل والاعتقال، وجماعياً من خلال هدم البيوت وإغلاقها والتضييق على الحركة عبر إقامة الحواجز وإغلاق الشوارع والأحياء. وتفتقت عقلية اليمين الفذة عن اقتراح إقامة الأسوار والجدران داخل مدينة القدس للفصل بين الأحياء العربية وتلك التي يسكنها اليهود، وبالرغم من معارضة بعض الجهات الرسمية لهذا التوجه باعتباره يمس بوحدة القدس التي أعلنتها إسرائيل عاصمة أبدية موحدة لها بعد ضم القدس الشرقية مباشرة بعد عدوان عام 1967 واحتلال القسم الشرقي منها، إلا أن ما يجري الآن على الأرض هو تقسيم فعلي يعزل الأحياء العربية ويتعامل معها تماماً كما المناطق المحتلة الأخرى في الضفة الغربية: المدن والقرى التي تعرضت لإغلاقات ووضعت حواجز على مداخلها لتقييد حركة المواطنين وإخضاعهم للرقابة والتفتيش الدائمين.
لا يوجد صوت قوي في إسرائيل، باستثناء صوت بعض الشخصيات المستقلة وأخرى محسوبة على أقصى اليسار، يدعو للبحث عن حل جذري للمشكلة وليس معالجة الظواهر الثانوية لها التي حتى لو عولجت اليوم ستظهر بصورة أقوى وأكثر تطرفاً في الجولات القادمة حيث سيكون العنف أكبر وعدد الضحايا أكثر، ألا وهي مشكلة الاحتلال. فطالما يوجد احتلال وقمع واستيطان وعمليات تهويد للقدس واعتداء على المقدسات فان فتيل الصراع لايزال باقيا وسرعان ما يفجر الوضع. ومن المفروض على العقلاء في إسرائيل أن يتساءلوا ماذا بعد كل هذه الإجراءات التي لا تفعل شيئاً سوى المزيد من التوتر والتصعيد.
لا يفيد إسرائيل كثيراً أن توزع الاتهامات على الفلسطينيين، مرة تجاه « حماس » ومرة تجاه «فتح»، والآن يجري التركيز على الرئيس أبو مازن باعتباره المحرض على العنف والمشجع للإرهاب بتصريحاته ومواقفه التي يؤيد فيها كفاح شعبه من أجل انهاء الاحتلال. وفجأة ضاعت كل الأصوات التي كانت ترى في شخص أبو مازن الشريك المثالي لتحقيق السلام، ويجري تضخيم الخطأ الذي حصل بخصوص مصير الفتى أحمد مناصرة وكأن ما حدث معه أمر بسيط ومع الآخرين الذين أطلقت عليهم النار بدم بارد وجرى قتل عدد كبير منهم وليس فقط من قام بالطعن أو حاول بل الذين يواجهون الجنود بأدوات أبسط كالحجارة ومجرد التظاهر ضد الاحتلال في الضفة وقطاع غزة أيضاً.
قد تقتل إسرائيل عشرات آخرين وربما مئات كما في كل الحروب والمواجهات السابقة، ولكن لن تنفعها حالة غياب الرؤية ومحاولات الهروب إلى الأمام. فما يحدث اليوم يؤشر لمرحلة جديدة لابد وأن تعكس نفسها على مستقبل الصراع مع الاحتلال. ولا مفر أمام قيادات إسرائيل من مواجهة السؤال الجوهري: هل يريدون السلام أم أنهم يعتقدون أن بوسعهم إدارة الصراع إلى ما لا نهاية؟ فالسلام يمكن تحقيقه بعد أن تقر إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وبعد أن توافق صراحة وبشكل قاطع على إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من حزيران من العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية أي أن تعيد تقسيم القدس ليس على طريقتها الحالية بمحاصرة الأحياء العربية. دون ذلك ستواجه هذا الجيل الفلسطيني المفاجئ حتى لقيادات الشعب الفلسطيني والأجيال القادمة التي تحمل هي الأخرى مفاجآت لا أحد يمكنه توقعها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد