المثقف لا يكذب شعبه، ولا يكون مدفوع القلم، ولا تحدد له مصطلحاته التي يستخدمها، ولا يقنن مسار قلمه ضمن السياق المحدد، ولا يكتب للتأطير والتنظير، ولا يشارك في صناعة القادة والشيوخ؛ لأن القائد والشيخ يجب أن يشق طريقه بين الأشواك ووسط الفقراء، فلا يستنبت ولا يصنع من خلال الصورة والمنبر والضجيج، المثقفون يولدون بالعشرات عندما يولد الناس بالملايين.
كتب أحد الأصدقاء على صفحته "إذا جال في صدرك رأي أو فكرة أو خاطرة، فكتمتها خشية سخط الغالبية التي تكون في وادٍ غير واد فكرتك، فاعلم أن ذلك من دواعي السقام، فإذا ما عاودتك الفكرة وألحت عليك، فرحت تدور حولها وتداورها وتتأنى بحثًا عن مفردات وبنية تنجيك شر العامة، فاعلم أن ذلك من المداراة التي قد لا تنتهي بك إلى شيء، ولكن إن قذفت بها هكذا دون تقميش فاعلم أنك أخرجت من نفسك ما لو ظل حبيسًا لقتل الإنسان فيك. قل ما تراه اليوم قبل أن يسبقك غيرك إليه، فربما كان من روافع الاجتماع البشري في محيطك وربما كسبت أجر الشهداء".
لا شك انه ليس مثقفًا من قتلت انسانيته، وحرم نفسه من البوح بما يؤمن به.
المثقف والثقافة من الصعب ان يحتويهما تعريف، ومن هنا يأتي التعقيد في تعريف المثقف، فنصف المثقف قد يعتبر مثقفًا، وكذلك ربعه وخمسه ومن هو أدنى.
قديمًا كان المثقف هو النبي أو الحكيم أو الفيلسوف أو الأديب، وكان السلاطين والملوك يختارون لأبنائهم مؤدبين يعلمونهم مختلف الآداب والفنون والعلوم، وكل ما يحتاجونه ليصبحوا مؤهلين لإدارة دفة الحكم.
فالثقافة يجب أن تشكل منظومة تعمل للانتقال بالمجتمعات الى وضع أفضل، فإن لم تقم الثقافة بهذا الدور فإن هناك مشكلة لدى المثقفين أنفسهم، تكمن في أن هؤلاء الذين اعتبروا مثقفين أو عرفوا أنفسهم بأنهم مثقفون غير قادرين على امتلاك الفاعلية في المجتمع، وذلك لأحد سببين:
الأول: إما لأنهم غير قادرين على استلهام الإجابات على المآزق المحيرة، وبالتالي ليس لديهم قدرة الاستشراف، وعقولهم أصغر من أن تفكر خارج الميثولوجيا التي قيدوا أنفسهم بها، فعندما اصطدمت مسلماتهم بالواقع أصبح مستواهم الثقافي لا يختلف عن الطفل الذي ولد للتو، لا يهم كم امتلك من علم بتجارب الأمم أو قراءة للتاريخ، لأن قراءته كلها كانت تصب في اتجاه واحد، وهو خدمة المسلمات التي يحملها، يقرأ كي يحكم على التاريخ بالميثولوجيا التي ألزم نفسه بها.
الثاني: انهم يدركون الإجابة ثم يسقطون في مربع عدم القدرة على التصريح بها، متناسين انهم بذلك قد أصبحوا خاسري الذات، فقد يكون مقبولًا حينًا من الدهر من مثقف أن يسكت عن قول الحق، سكوتًا يظهر ان صمته شهادة بأن الواقع لا يسمح له بالتعبير، وفي هذه الحالة من غير المقبول عليه قول نصف الحق، فقول نصف الحقيقة من قبل المثقف هو عين الكذب وتمامه؛ لأن المثقف مؤتمن على قول الحق، وإذا سكت عن نصفه اعتقد الناس ان نصف الباطل المسكوت عنه بأنه هو الحق، فيما سكوته التام هو شهادة ضد الواقع برمته.
قد يجد البعض ممن يعتبر نفسه من طبقة المثقفين التبريرات للسكوت على الفساد من خلال شعوره انه يقدم النصيحة لحزب الباطل سرًا، ويلتصق بعلاقات حميمية بأصحاب هذا الباطل سعيًا منه - على ما يظن - انه يقوّم المسارات من الداخل، إن هذا يعتبر من أكبر الكذابين المدلسين المرتزقين بالثقافة، وقد يجد بعضهم انه من الضروري ان يرتبط برباط حزبي أو سلطوي أو بدعم أجنبي أو بنظام إقليمي لشعوره ان هذه الجهة هي جهة مخلصة وصادقة وتبغي مصلحة الوطن والمجتمع، ولا يدري انه سيسقط لا محالة في مجاملة هؤلاء على أخطائهم سعيًا منه لتقديم النصيحة لهم سرًا، ولا يدرك انه يخذل المجتمع بهذه السرية، وفي المقابل تجده بوقًا صادحًا بالنقد علانية ضد ما يظن انه باطل، لكنه جاء من جهة غير الجهة التي يواليها.
من هنا فلا يمكن اعتبار من ارتبط بوثاق أو بيعة حزبية على انه مثقف، ولا يمكن اعتبار من ارتبط بعلاقة سلطوية أو نظام حاكم - وحتى لو اعتقد انه صادق مع نفسه - لا يمكن اعتباره مثقفًا، بل هو طالب ثقافة أو مدعيًا ذلك في أحسن الأحوال.
قد يقع المثقف في أكبر المحظورات عندما يظن بأنه يعمل لمصلحة الشعب، وذلك عندما يحابي جهة سياسية ويدافع عنها في محنتها، معتبرًا ان محنتها هي محنة الأمة، الشعب، الدين، الوطن، فيتماهى الحزب في نظره مع المجتمع والقيم، وينسى انه بذلك يكذب أهله، فيتحدث بثقة زائدة عن سلامة المجتمع وقدراته وإمكانياته، ويعطي معدلات مكذوبة عن حصانة المجتمع، وهو لا يستمع لقاع المجتمع، فالمثقف يجب ان يتلمس التهديدات التي تحيط بالمجتمع من الداخل ومن المحيط ويواجه ذلك بصدق، فالمثقف يجب ألا يطمئن لأية جهة مهما ادعت انها تخدم الشعب، لا يكون مطمئنًا لأنه هو الأعلم بضعف المجتمع، فلا يصرخ مع الصارخين ولا يغرد مع المغردين ولا ينعق مع الناعقين ولا يكون بوقًا لأحد تحت شعار رفع المعنويات، معولًا بذلك على علاقته بسلطة دينية أو سياسية.
فإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظن شرًا وكن منها على وجل
ليس مثقفًا، بل غوغائيًا من يتحدث عن الصمود خلال المحنة، ويطمئن الناس ان الأمور تسير بخير والقيادة بخير والحزب بخير، وأن شعبهم هو الرائد في المنطقة، وأن أمتهم لن تذوب؛ فيما أسماك القرش تبتلع مهجريهم، من يفعل ذلك هو كاذب، وبالكذب يرتزق. وليس مؤمنًا من يخرج ليعد العالم بأن شعبه مؤمن ولن يتزحزح عن أرضه؛ فيما النار تسقط على رؤوسهم وملايين تترك بيوتها وتهجر، فيما هو لا يتزحزح عن منبر الإعلام من داخل قبو أو خارج الوطن، فهو شيخ يسترزق بالدين، وفي أحسن الأحوال يعيش غيبوبة أو قد مسه الجن.
المثقف هو الحامي للمجتمع ويدافع عنه ضد من يسرق مقدراته وضد من يستخدم قوته للاعتداء على الضعفاء، ولا يغفر لمن يتسلط على الناس، سواء كان حزبًا أم شخصًا، ولا يدافع عنه تحت أي شعار كالمغفرة وإقالة العثرات، أو تحت مبررات زائفة مثل ان مرحلة التحرير تستدعي التغاضي عن الفساد وتأجيل المحاسبة وأن التواجد تحت الاحتلال لا يسمح بالشفافية؛ من يخلق هذه الذرائع ليس بمثقف وليس بحريص، إنما كافر بحق الشعب في حياة القيم، وهو يفضل سلامة فرد أو حزب على سلامة المجتمع وقيمه، ولا يدرك ان استبعاد المنحرفين من التأثير، وعدم الغفران لهم أولى بكثير من ان نغفر لهم، لأن الفساد يبدأ بفساد الكاتب والصحفي والفنان والسياسي والشيخ.
إن دور المثقف ليس بالدور الهين ولا يقبل منه ان يداهن السياسي؛ بل مطلوب منه أن يقدم نموذجًا في الصلابة والاستقامة والنقد والشعور بالاستفزاز عندما تمس أخلاق وقيم المجتمع وممتلكات الناس. لن ينجح مثقف مهما كان ان يدخل شعبًا في سم خياط حزب، ولا حتى سم خياط مشروع مهما كان المشروع، فلا يمكن لمشروع ان يفرض على شعب قدره، لأن هذا هو الاستبداد بعينه ولا يمكن ان يكون لصالح الشعب مهما كان التبرير.
المثقف الذي يملك الاجابة على الأسئلة، المأزق الذي يمر به مجتمعه إنما هو بوصلة مجردة لا تتكئ على رضى الآخرين ولا على مواقف أحد، فهو عامود الخيمة، وهو الذي يثق به المواطن العادي، هو الذي يقف ضد الفساد ويتبنى هموم الناس ولا ينظر إليهم من عل لأنه ليس نخبة منقطعة عن الأرض.
وعلى الهامش،
إلى المثقفين الفلسطينيين:
هل استوقفكم لماذا لم يتحرك الشعب يوم الجمعة، يوم غضب الفصائل كلها، حماس ، الجهاد، فتح والجبهة الشعبية؟
لماذا لم يلبّ الشعب نداء الفصائل على مدار سبع سنوات مضت بإشعال انتفاضة ثالثة، وانتفض الآن وحده وبإرادته واختياره؟
ما الذي يدفع الطالبات في الخليل ان يصرحن انهن يخجلن من ان يتحدثن عن انتماء للفصائل؟
لماذا يطالب الشهداء بأن لا تتبناهم الفصائل وأن لا يكفنوا برايات حزبية؟
لماذا يطالب الشباب الواعد الفصائل بترك المشهد وإعطاء الجيل الجديد فرصة النضال على طريقته؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية