فيما تتواصل الهبة الجماهرية أسبوعاً بعد آخر، فإن ثمة حاجة أكبر لاعادة ترتيب الأوراق وتنظيم الأمور من أجل الرقى بها وجعلها رافدة جديدة للعمل الوطني. يوماً بعد آخر تظهر الهبة بوصفها فعلاً جماهيرياً يعبر عن إرادة قوية في دفع المطالب الوطنية قدماً.
ورسالة ذلك واضحة وتتمثل في أن بديل السلام ليس السلام، وان ثمن الاحتلال ليس الصمت. وكما أشرنا في مقالتنا الأسبوع الماضي، فإن ثمة افتراق كبير بين هذه الهبة والانتفاضات السابقة. وأهمها أنها هبة تأتي ضمن رؤية سياسية وتسعى إلى تصويب مسار سياسي دون أن تتنازل عنه.
وعليه، لم يكن صدفة أن تبدأ بعد لحظات من انتهاء الرئيس محمود عباس من القاء خطابه أمام الجمعية العامة. وربما ثمة جملة من الملاحظات الواجبة في هذا المقام.
أولاً: المؤكد ان فتح نجحت خلال الفترة الماضية في اثبات مقدرتها على توجيه الشارع الفلسطيني وفي التعبير الحقيقي عن نبضه. فليست الهبة الحالية ردة فعل على خطاب الرئيس محمود عباس امام الجمعية العامة فقط، بل إن تنظيم فتح الذي يقوده الرئيس عباس كما بات واضحاً هو الذي يقود إيقاع هذه الهبة، ورجالاته هم الذين يخوضون المقاومة الشعبية اليومية والمواجهات مع الاحتلال وقطعان المستوطنين في كل مفرق وقرب كل تلة وجبل في الضفة الغربية. كل ذلك فيما يكتفي الكثيرون من هواة الفضائيات بالتصريحات والخطب وبعضهم بالسب والشتم.
أما بالنسبة لفتح فإنها تمارس قناعاتاتها بمقاومة الاحتلال والتخلص منه ومن الاستيطان. المقاومة الشعبية – التي هزأ الكثيرون منها دون ان يفهموا أنها تعني حالة الاشتباك اليومي مع الاحتلال- التي تبنتها فتح في مؤتمر العام السادس وصعدت من حدتها تدريجياً حتى وصلت إلى الهبة الحالية وفعالياتها المختلفة.
ثانياً: إن أساس العلاقة مع الاحتلال هي علاقة اشتباك وصراع حتى تحقيق المطالب الوطنية كاملة. البلاغة لا تفيد كثيراً في هذا المقاوم، فالذي يفيد هو وجود برامج مواجهة ذات شخصية واضحة وصريحة، مصاغة ضمن رؤية وفلسفة تعتمد على ضرورة تحقيق المطالب السياسية وإسناد الحقوق ميدانياً. من هنا لابد من التأكيد على وجوب تطوير المطالب السياسية وتجسيد البحث عنها خلال هذه الهبة. بكلمة أخرى لابد من القول بصراحة إن غايات هذه الهبة هي تحقيق المطالب التالية، فهي ليست زوبعة نزلت من الفضاء، ولا هي جماهير خرجت غاضبة لأنها عمياء لا ترى طريقاً تسير عليه.
وهذا يتطلب أيضاً توسيع قاعدة المشاركة الشعبية وتفعيل الدور الهام لكل المنظمات الشعبية والجماهيرية والساحات في تثوير حالة الاشتباك اليومي. وكل ذلك على قاعدة البحث عن أفضل طريقة من أجل إنجاز المطالب المرفوعة. وغني عن القول أن الكل الوطني مسؤول عن كل ذلك. فهذه ليست معركة تنظيم بعينه، رغم كون فتح المبادرة والمسيرة لما يجري. وأن هذه المطالب يجب أن تكون مطالب الجميع، وهي تشكل الحد الأدنى من الاتفاق الوطني، وربما يمكن لوثائق الحوار الوطني أن تشكل قاعدة لتطوير هذه المطالب الجمعية.
لأنه في اللحظة التي يرى كل طرف غايات مختلفة لهذه الهبة فإنها ستفقد قوتها، ويصار إلى تمزقها. وربما بالنظر إلى مآلات الانتفاضة الثانية يمكن لنا أن نتعلم كثيراً.
ثالثاً، قد يكون من باب الزعم الزائد القول إن الحجارة يمكن لها أن تدفع المستوطنين لترك المستوطنات التي سرقوها من الفلسطينيين، وربما من باب الثقة الزائدة افتراض أن الهبة الحالية يمكن لها أن تنهي الاحتلال بضربة قدر. لكن المؤكد رغم كل هذا أن هذه الهبة وتلك الاشتباكات اليومية على المحاور ومداخل المستوطنات توصل رسالة قاسية للاحتلال والمستوطنين، اما بالنسبة لنتنياهو وحكومته فعليهم أن يختاروا بين الدولة الفلسطينينة وبين وضع يصبح كل شيء حولهم آيل للانهيار. فالفلسطينيون ليسوا وحدهم من يعانون، وليسوا وحدهم من يمنعون من الحركة، وليسوا وحدهم من لا يشعر بالآمن، وليسوا وحدهم من يقفون على الحواجز، وليسوا وحدهم من يدفعون فاتورة الاحتلال، وان القدس ليست ساحة تمارس فيها إسرائيل كل سياساتها بلا ردة فعل من قبل المقدسيين.
رابعاً: لقد آن الأوان لرمي القاموس الحزبي خلف الظهر، وإعلاء المصلحة الوطنية حتى تصبح علاقاتنا الحزبية على مستوى الكفاح اليومي للشابات والشبان خلف الحواجز. إن إصرار البعض على التمسك برؤيته الحزبية الضيقة وتغليب خطابه الفصائلي على خطاب الشارع. إن تطوير الخطاب الجمعي القائم على الاتفاق العام وعلى المأمول تحقيقه ضمن المتاح، وحده كفيل بان يصّلب عود الهبة الجماهيرية ويجعل منها رافعة للمشروع الوطني وليست مجرد غضبة وتنتهي. واهم من كل شيء أن لا يتم حرف بوصلة الهبة وتصبح مجرد قتال بلا غاية سياسية.
خامساً، لقد نجح الرئيس أبو مازن، وعلى خصومه ان يقروا ذلك وإن على مضض، في أن ينتقل ببراعة من الهجوم الدبلوماسي والسياسي الذي وضع فيه إسرائيل في قفص الاتهام والدفاع عن النفس ومن ثم دفع فاتورة الاستحقاق من خلال المقاطعة وخسارة مواقعها الدولية، إلى الهجوم الميداني المكلف لإسرائيل أيضاً. فدولة فلسطين التي اعترف المجتمع الدولي بعضويتها وقال إن حدودها على الرابع من حزيران، تنتفض الآن من أجل ان تجسد قرارات المجتمع الدولي، وأن هؤلاء المستوطنين وهؤلاء الجنود ينتهكون هذه القرارات. وأن ما يقوم به الشبان الفلسطينيون ليس إلا دفاعاً عن حقوقهم المشروعة، وعن حياتهم التي باتت في خطر جراء سياسات المستوطنين ووجودهم. أبو مازن قال ببساطة لقد بلغ السيل الزبى، واجتاز الحصان اسكدار، وأن على المجتمع الدولي أن يمارس قناعاته- هذه المرة مرغماً، ويقول لاسرائيل كفى.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية