لم يخطر ببال واضعي خطة الفوضى الخلاقة ، عندما اردوا للقضية الفلسطينية ان تتيه وسط زحام الصراعات الداخلية التي اشتعلت في المحيط العربي، ان الشعب الفلسطيني سيخرج عن المألوف ، ويقلب الطاولة مجددا وللمرة الثالثة ، ويتمكن من وضع القضية الفلسطينية مرة في الصدارة ، ويحافظ على القدس قبلة الفلسطينيين وعاصمتهم الابدية .
وفي الواقع الراهن اعتقدت ادارة الاحتلال ان الشعب الفلسطيني اصبح منهكا بالانقسام والحرب المدمرة التي تعرض لها قطاع غزة ، فلن تستطيع السلطة التحرر من اتفاقات اوسلو ، ولن تستطيع حماس المنهكة من العدوان الاخير على قطاع غزة الرد بعد تدمير القطاع على رؤوس مواطنيه ، امام بصر العالم اجمع ، وبالتالي اصبحت الفرصة مواتية لنتنياهو وزمرته المتطرفة الاستفراد بالمسجد الاقصى وتهويده ، ضمن المخطط القديم الجديد لفرض واقع جديد في المسجد الاقصى ، يفرض على الفلسطينيين والعرب على حد سواء .
الصدمة التي دمرت المخطط الاسرائيلي، والتي لم تكن بالحسبان ، كانت من الجيل الثالث للانتفاضة، الذين تفتحت عيونهم على الدنيا مع بداية انتفاضة الاقصى ، فاستطاعوا ان يقلبوا المعادلة ، فلم تقيدهم معادلات الاتفاقيات الدولية التي ظلمت الشعب الفلسطيني ، ولا اتفاق وقف النار المؤقت الذي تلوح به دولة الاحتلال لإرهاب حماس بين الحين الاخر.
اليوم يتذكر المحللون تلك الايام التي تنفس فيها قادة الاحتلال الصعداء في الثمانينات من القرن الماضي ، عندما غابت القضية الفلسطينية عن المشهد السياسي بالمنطقة ، في ظل زحام انشغال العالم بالحرب العراقية الايرانية ، لدرجة ان القضية الفلسطينية كانت على بند روتيني لا جديد فيه على جدول اعمال القمة العربية في عمان عام 1987م ، ما ادى الى غضب القيادة الفلسطينية ، ليلتقط اطفال الحجارة الاشارة ، وما هي الا ايام معدودة حتى اصبح العالم يتعامل مع مصطلح جديد ، اضيف الى اللغات العالمية اجمع اسمه "الانتفاضة الفلسطينية " ، لتعود القضية الفلسطينية الى الصدارة مجددا.
في تلك الحقبة اصبح اطفال فلسطين كوابيس تطارد الاحتلال وقادته في نومهم ونهارهم، ليجبروا وقتها صقر الاحتلال "اسحاق رابين" للاعتراف ان لا حل للصراع الا بحل سياسي يلبي حقوق الشعب الفلسطيني ، وانه لا يمكن باي حال من الاحوال اجبار الشعب الفلسطيني التخلي عن حقوقه ، ومهما كانت الوسائل ، وكان هذا الاعتراف هو شهادة الوفاة التي كتبها لنفسه ، حيث تمت تصفيته من قبل متطرف اسرائيلي.
تصفية اسحاق رابين من قبل المتطرفين الاسرائيليين ، اعادت المنطقة الى المربع الاول ، بعد خضوع المجتمع الاسرائيلي الى سيطرة اليمين الاسرائيلي ، لينتخب نتنياهو رئيسا للوزراء ، ليضع مخطط حفر نفق اسفل المسجد الاقصى ، ما فجر وقتها ما اطلق عليه انتفاضة النفق ، لتشكل نكسة كبيرة لحكومته المتطرفة ، ليعاد انتخاب حزب العمل مرة اخرى بزعامة "ايهود باراك" الذي كان اسير الضغوطات اليمينية المتطرفة ، وكان يخشى مصير مشابه لمصير "اسحاق رابين" ولم تتقدم خطوة واحدة في عملية السلام المجمدة رغم قمة "كامب ديفيد" لإحلال السلام برعاية الرئيس الامريكي "كلنتون" الذي مارس ضغوطات كبيرة على الوفد الفلسطيني بزعامة الرئيس الشهيد ياسر عرفات للتنازل عن القدس ، ولم تفلح كل الضغوطات ، لتصل عملية السلام الى طريق مسدود بعد انهيار فرصتها الاخيرة .
ايام معدودة حاولت المؤسسة الاسرائيلية التي تضع خطط للسيطرة على الشعب الفلسطيني ، اختبار مدى جدية الشعب الفلسطيني في الدفاع عن القدس ، معتقدة ان الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية مكبلة بالاتفاقيات الموقعة ، الامنية والاقتصادية ، ولن تستطيع ان تحريك ساكنا ، فأوعزت الى "اسحاق شارون" رمز التطرف في اسرائيل ، والذي قاد جرائم بشعة بحق الشعب الفلسطيني من مجازر وجرائم بحق الاطفال والنساء "اسحاق شارون" بالتوجه الى المسجد الاقصى لتدنيسه ، رغم تحذير الرئيس الشهيد ياسر عرفات ، في زيارة استفزازية في ظاهرها ، ولكنها من خلف الكواليس كانت تهيئ الاجواء لشارون لقيادة المشهد السياسي في دولة الاحتلال ، وفي اعقاب الزيارة اندلعت الانتفاضة الثانية "انتفاضة الاقصى ، كان ابطالها من كانوا اطفال في الانتفاضة الاولى عام 1987م.
ونحن اليوم امام مشهد مماثل لهبة جماهيرية فلسطينية عارمة ، تتكرر للمرة الثالثة خلال ثلاثين عاما ، بسبب تنكر دولة الاحتلال لحقوق الشعب الفلسطيني ، وتخلي الامم المتحدة عن دورها ، وخذلان الرباعية الدولية للشعب الفلسطيني ، وانكفاء الادارة الامريكية ، ودفن رأسها في التراب امام التطرف الاسرائيلي الذي يتزعمه نتنياهو وحكومته المتطرفة ، تحت عنوان يهودية الدولة ، التي لا تختلف في عناصرها ومكوناتها واعمالها ، عن دولة "داعش" في العراق وسوريا.
وهؤلاء الفتية والفتيات الصغار الذين تحركوا اليوم ، لن يتوقف تحركهم الا ب فتح الافق امامهم لمستقبل وحياة طبيعية كباقي اطفال وشباب العالم ، بدون احتلال ومستوطنين يدمرون الحجر والشجر ، لتغيير الواقع الجغرافي والانساني لهؤلاء الشباب ، والتضييق على حياتهم اليومية وقتل مستقبلهم.
وحتى اللحظة لا يعرف احد كم سيكون عدد الضحايا من الجانبين ، حتى يقر "نتنياهو" وفريقه الداعشي المتطرف بالنتيجة التي اقر بها اسحاق رابين سابقا ، والتي قالها امام العالم في غمرة الانتفاضة الاولي ، محاولا اقناع الاسرائيليين بالحل السلمي وكان عنوانها : "لا يمكن لقوة مهما بلغت ان تسيطر على شعب اخر"
وحتى هذه اللحظة يتحمل المجتمع الدولي المسؤولية الكاملة عن حياة ابناء الشعب الفلسطيني ، الذين يعدمون ميدانيا وبدم بارد ، في غمرة تحريض خطير من الحكومة الاسرائيلية واحزابها على الشعب الفلسطيني ، وباتت الان مطالبة بتوفير الحماية الدولية لشعب دولة فلسطين .
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية