وَعَلامَةُ رَفْعِهِ الفِكرَة
كثر الحديث والتحليل هذه الأيام حول تشخيص ما يجري من أحداث في الوطن، وهل نحن على أعتاب انتفاضة جديدة أم أنها هبة لا أكثر. وبينما ينشغل السياسيون والمحللون بهذا السؤال، تتجلى حالة من الفلتان الإعلامي والحوَل السياسي، ناهيك عن الإصرار على تعليب ما يجري في قوالب حاضرة وتعود إلى أزمنة مضت، دون الالتفات لما تكشفه الأحداث من انكشاف للحالة السياسية برمتها.
في الإعلام، هناك حالة فلتان خطيرة وتحلل من أدنى معايير المهنية، ما يجعل التغطية الإخبارية لما يحصل من أحداث متتالية ومتسارعة أقرب إلى دوامة من الإشاعات والشعارات منها للعمل الصحافي. هذا ليس حكماً مطلقاً بطبيعة الحال، فهناك من الوسائل الإعلامية والزملاء من حافظوا على المصداقية والمهنية. لكن الصورة العامة قاتمة ومحزنة، بحيث تطغى الإشاعات والمبالغات والشعارات على الحقائق، ويسهل مع هذه الحالة تمرير الرواية الإسرائيلية المدروسة بكل سهولة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تنقل وسائل الإعلام المحلية والعربية عن مصادر إسرائيلية الأخبار عن عمليات طعن مزعومة وبعد ساعات، يثبت أن لا وجود لعملية وأن الأعمال البطولية التي نسبها الإعلام إلى الشاب أو الشابة المصابين ما هي إلا تثبيت للادعاء الإسرائيلي الكاذب الذي يروجه الاحتلال لتبرير عمليات القتل والإعدام. وتتعزز حالة الفلتان هذه بأن تنشر وسائل الإعلام أخباراً عن ارتقاء شهداء ما زالوا أحياء وتوزيع صور لشهداء، هي في حقيقة الأمر لأشخاص أحياء يرزقون، وبهذا تساهم في خلق حالة من الفوضى والقلق والألم، لا يحتاج معها المحتل أن يبذل أي جهد لضرب معنويات الشارع الفلسطيني طالما أن هناك من يتطوع، بجهل وانعدام للمسؤولية، بفعله.
وفي السياسة تتجلى حالة الحول في المنطق والوجهة بأن تهاجم حركة حماس قرار اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير إرسال وفد إلى قطاع غزة للتشاور حول تشكيل حكومة وحدة وطنية وتتهمها بمحاولة حرف البوصلة عن القدس ! وينكشف الفلس السياسي بأن تتبارز الفصائل فيما بينها في إصدار البيانات التي تبارك للشعب هبته بينما هي تختبئ وراء الشعارات للفكاك من مسؤوليتها في امتلاك رؤية سياسية واضحة لتوجيه واستثمار ما يجري من مواجهة مع المحتل وشجاعة وتضحية في سبيل هدف التحرير والعيش بكرامة. ويكتفون بالمزايدة على بعض والحديث عما يجري وكأنه غاية بحد ذاتها، فيصبح من الصعب التفريق بين طرح هؤلاء وحديث الشباب الغاضب والناقم على الحالة السياسية. وتتعمق حالة الفلس في تصريحات عدد من قيادات حركة فتح لتتناقض ورؤية الحركة السياسية، ذلك لإذكاء لصراع داخلي في الحركة على المستقبل أو تماشياً مع حالة الجكر الفصائلي السائدة.
وبينما يعبر الشارع الفلسطيني عن غضبه وكفره بالذل والاحتلال وتجاهل العالم لحقوقه، ترى الفصائل السياسية تحاول تعليب ما يجري في قوالب جاهزة من الأفعال والبيانات والدعوات دون الالتفات لأخطاء الماضي أو دراسة الحالة الجديدة ومتطلباتها. ومن طرائف الحالة هذه أن ترى ممثلين عن "القوى الوطنية والإسلامية" يلقون الخطابات العصماء في مسيرات داخل المدن ويتحدثون وكأنهم الموجه والمسير لما يحدث في الميدان. في المقابل، المتابع لوسائل التواصل الاجتماعي يقرأ وبوضوح أن الشبان والشابات المشاركين في الأحداث الفعلية والافتراضية لا يتناولون هذه الخطب إلا من باب السخرية وتعزيز قناعتهم بأن هؤلاء السياسيون غير متصلين بواقعهم ومشاعرهم ولا صلة لهم بخطواتهم الاحتجاجية التي تفتقر إلى أي نوع من التوجيه السياسي. وبين هذا وذاك، تطل بعض الشخصيات المطالبة بعسكرة الحالة الشعبية من باب الافتقار لأفكار خلاقة أو المزايدة على الخصم السياسي الداخلي.
في خضم هذه الحالة المزرية، هناك من السياسيين وجوقة من الناشطين والمحللين من يشجع ويتبنى أن يذهب أطفالنا إلى حتفهم كالخراف، فتراهم يصفقون للأطفال على الحواجز ونقاط التماس في مدن الضفة الغربية ويرسلونهم وشبان أكبر بقليل إلى المناطق الحدودية في قطاع غزة، حيث أقرب موقع محصن للجيش الإسرائيلي يبعد عن ملقي الحجارة كيلو متر على أقل تقدير. ثم ترى جوقة المشجعين تلك تذرف الدموع على الشهداء الأطفال، الذين يظلمون مرتين، مرة بإرسالهم إلى موتهم وأخرى بتصويرهم كأبطال تحملوا مسؤولية النضال، بينما الحقيقة أنهم قدموا قرابين على مذبح المزايدة لأن الفصائل المنوط بها امتلاك رؤية وقيادة البالغين في معارك التحرير متوارين حلف المايكرفونات لإخفاء انكشافهم.
الحقيقة المرة أن حالنا لا يسر إلا الأعداء. نحن نردد حديثاً عن الضفة وغزة باعتبارهما كيانين منفصلين لكل واحدة منهما هوية نضالية، وننساق وراء الدعاية التي تصور النضال باعتباره ثأر والاشتباك باعتباره غاية والعمل السياسي باعتباره هزيمة. في المقابل، فصائلنا تتبارز فيما بينها حول عدد الشهداء، بدل الإنجازات السياسية التي تقربنا من الحرية، فتحيي الدماء بدل الحياة، وتحتكر بيانات النعي والتبني والمباركة بدل أن تكون عنواناً للتثقيف الوطني والتوجيه السياسي والقيادة بما تحمل هذه الصفة من مسؤوليات. في هذه الأجواء، الحديث عن انتفاضة هو ترف وتمني لا غير ولا رجاء ولا تعويل على حاضنة سياسية تتمكن من إحداث إنجاز سياسي يليق بهذه التضحيات. هذه الحالة من الحول والفلتان والضبابية، لا تنتج إلا الانتصارات الورقية والبلاغية بينما تزرع في الأرض مرارة القهر وقسوة الوحدة لذوي الشهداء والخذلان لجيل جديد عملاق يتوق لحرية وكرامة لن تأتي بالمزايدة والبطولات الإنشائية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية