تثير الهبة الجماهيرية الحالية التي تتصاعد في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي قلب كل ذلك القدس ، الكثير من الأسئلة التي لابد أن تكون الاجابات عنها واضحة حتى تتمكن الهبة من أن تؤتي أوكلها.

من المؤكد أن الشعب الفلسطيني لا يريد انتفاضة من أجل الانتفاضة، فلا فعل يمكن له أن يكون مجردا لذاته. والمؤكد أن خبرات الشعب الفلسطيني الكفاحية والنضالية علمته بأن الغاية هي التي يجب أن ترجى من وراء أي فعل. وعليه لابد من التأكيد على المطالب الوطنية وراء هذه الهبة وعدم تركها عرضة للأهواء ولغايات الخطباء وبلاغة الناطقين وشناعة تعبيراتهم. فلم يسبق لأي فعل سياسي أن نجح لأنه حدث أن صار على هذا الشكل أو ذاك. وبدون محاولة تأطير المواقف وصياغة الشعارات والأهداف بغية توجيه بوصلة الحراك الشعبي، فإن المؤكد أن الهبة الفلسطينية الحالية لابد أن تصبح مجرد حلقة مفرغة أخرى من الفعل الميداني الذي يصبح له آباء كثر يتبرؤون منه أمام أول مطب.
هل نحن شعب نعشق الانتفاضات؟ التاريخ الفلسطيني منذ مائة سنة تقريباً هو رواية واحدة متكاملة لغضب شعب وثورته وانتفاضته في وجه محتليه متعددي الجنسيات مختلفي الأهداف والغايات. فمنذ الغضب الفلسطيني على سياسات جمال باشا التركي وحتى هبات الشعب الفلسطيني المختلفة أبّان الانتداب البريطاني وبعد ذلك مقاومة شعبنا الباسلة لسرقة أرضه ومدنه وقراه وتشريده في المنافي إلى انبعاثه عبر الثورة الفلسطينية المعاصرة وتشكيل منظمة التحرير لتعبر عن كيانه المعنوي وصولاً إلى الانتفاضة الأولى وبعد ذلك الثانية، خلال تلك "الساجا" الطويلة من النضال لم تكن يوماً الهبة والانتفاضة أمرين مرغوبين لذاتيهما، بل كانتا دوماً استجابة لحالة يجب أن تنتهي.
ويمكن بقراءة مقارنة لتاريخ هذه الهبات تلمس أن ثمة غاية كانت وراء كل هبة او انتفاضة شعبية في فلسطين. ولنأخذ مثلاً الانتفاضة الأولى عام 1987 التي جاءت لتعلن رفض شعبنا لاستمرار الاحتلال ورفض سياساته القمعية بحقه ومصادرة ارضه. جاءت الانتفاضة لتقول لا كبيرة لاستمرار الوضع الراهن في ذلك الوقت، ونجحت القيادة السياسية في اخراج أهداف الانتفاضة ضمن برنامج سياسي جسدته رغم العثرات التي اعتورته بعد ذلك. بيد أن حتى خصوم هذا البرنامج (شركاء الانتفاضة رغم ذلك) سرعان ما سيتمتعون بنعمه ويرغدون بنعيمه حين يلتحقون بالسلطة السياسية التي وجدت نتيجة له ويتنافسون بالإنتخاب أو بالإنقلاب على مجلس السلطة التشريعي.
أما الانتفاضة الثانية، فقد جاءت في ظاهرها ردة فعل على زيارة شارون للمسجد الاقصى، أما في باطنها فكانت تعبيراً عن الخيبة الفلسطينية من عدم اكتمال مشروع السلام الذي كان يجب أن ينتهي بوجود دولة فلسطينية بعد السنوات الخمسة التي تنتهي بها المرحلة الانتقالية. من المؤكد أن الخيبة السياسية والاحباط الشعبي كانا وراء اندلاع انتفاضة الأقصى. لكن المؤكد أيضاً أنه على عكس الانتفاضة الأولى فإن انتفاضة الأقصى لم ترفع شعاراً موحداً، ولم تتطور إلى برنامج سياسي يصار إلى تحقيقه. من هنا فإنه يصعب مثلاً القول متى انتهت انتفاضة الأقصى بشكل حقيقي. بل إنه أيضاً يصعب القول ما هي النتائج السياسية لها. فرغم أنها كانت تعبيراً عن الاحباط من البرنامج السياسي الذي انتجته أوسلو إلا أن هذا البرنامج واصل وجوده وتكثف في مراحل مختلفة. ورغم ان اعادة انتشار الجيش الإسرائيلي خارج حدود قطاع غزة كانت احدى هذه الثمار، إلا أن الاحتلال ظل يحتل قطاع غزة بشكل فعلي ويحرم سكانه من حرية الحرية أو استخدام مجالهم الجوي والبحري. كما أنه أول استثمار حقيقي (ومؤلم) قام به الفلسطينيون بعد خروج الجيش من غزة كان فصل غزة عن الضفة الغربية، وبالتالي توجيه خنجر مسموم لمشروعه التحرري.
ما الذي يجرى الآن؟
المؤكد أيضاً أن الهبة الجماهيرية جاءت بعد خطاب الرئيس أبو مازن في الأمم المتحدة وإعلانه أن الفلسطينيين لن يلتزموا باتفاقيات لم تلتزم بها إسرائيل وأن السلام بكلمات أخرى لا يمكن أن يكون حبا من طرف واحد، وأن على المجتمع الدولي أن يتحمل مسؤولياته ويواجه الصلف الإسرائيلي. القنبلة التي برع بعض خصوم أبو مازن في الاستهزاء بها وجدوها بعد لحظات من الخطاب تنفجر في شوارع الضفة الغربية والقدس. وفيما كان بعض الناطقين والقادة السياسيين يمارسون هوايتهم في الردح والشتم والتبخيس، دون ان يكلفوا أنفسهم عناء التأمل السريع للخطاب وما سيتلوه أو يسألوا الرجل ماذا تقصد، وفيما هما يمارسون هواية بات يكرهها المواطن الفلسطيني على الفضائيات، كان الشارع أكثر ذكاءً منهم في التقاط فحوى الخطاب وفي ترجمته على الأرض.
ففي الوقت الذي لم يفهم هؤلاء خطاب أبو مازن كما لم يفهمه نتنياهو وحلفاؤه في البيت الأبيض فهمه الشارع. السؤال يظل عالقاً هنا: ما الذي نريده من راء هذه الهبة؟ الثابت أن القيادة السياسية لم تتخل عن المشروع السياسي كما فعلت عند انتفاضة الأقصى مثلاً بعد عودة عرفات من كامب ديفيد، لكن أيضاً بالنسبة للمواطن فإن آفاق تحقيق المشروع السياسي باتت مستحيلة مع الاستيطان المستمر. وعليه يجب تطوير شعارات وأهداف من قلب المشهد تسعى إلى تركيز الاشتباك وغاياته نحو أهداف محددة يمكن استثمارها في اعادة الاعتبار للبرنامج الوطني ولممكنات تحريك عجلاته إلى الأمام.
وهذا بدروه لن يتحقق إذا ما عادت حليمة لعادتها القديمة وأعلينا من شأن التناقضات الثانوية على حساب التناقض المركزي. وأبشروا فهناك من هو مدمن على ذلك. وحقيقة الأمر أننا بحاجة لأن نكون صادقين مع الشعب الذي يخرج فتيانه قبل شيوخه ونساؤه قبل رجاله إلى ساحات الاشتباك مقدمين أرواحهم الغالية رخيصة حتى يسمع العالم صراخهم "لا للاحتلال، ولا لتقسيم القدس". وحين نكون صادقين يجب أن يكون في جيبنا اجابات لاسئلة كثيرة حتى لا تنقلب الأمور وتصبح مجرد مواجهات يومية يستشهد فيها يومياً العشرات. على الهبة الحالية أن تكون ببرنامج سياسي وواضح وغايات محددة ورسالة مختلفة الاتجاهات للاحتلال وللعالم تقول إن الشعب الفلسطيني لن يصبر أكثر من ذلك على استهتار إسرائيل بحقوقه، وأن نقيض الدولة الفلسطينية هو المزيد من الانهيارات والانجرافات، وأنه لم يعد في قوس الصبر منزع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد