لا يعنيني الاسم الذي يمكن إطلاقه على المشهد الفلسطيني في الشارع، هبة أم انتفاضة أو حراك شعبي، ما يهمني أنه مشهد احتجاجي، مفعم بال حماس ، باذخ بالتضحية واستعداد عالِ لتقديم الصَعب، علاوة على امتلاكه سمات وميزات ودروساً وعبراً خاصة به.
عدا عن مفاجأتي بانفجار خزان الاحتمال والإذلال، تفاجأت أن منا من لا يعرف شعبنا جيداً، وأكثر الغائبين عن المعرفة بالمآلات التي انحاز إليها الشارع المستقل، قيادته، فقد حُكم عليه بمتلازمة الإحباط، وتم التعامل معه على هذا الأساس وكأن الجميع مرتاح لذلك، ليتفاجأ الجميع بالمخزون النضالي لدى الشارع وعدم تردده إزاء ما هو مقدم عليه، ومن نقمته على الحال، وما ومن، أوصلنا إليه.
من نافلة القول إن الشارع الفلسطيني وفي المقدمة منه الشباب يئس من الطريقة التي تعالج بها القضايا الوطنية والداخلية، ونفض يده من مفاوضات ممجوجة، وكان وما يزال غاضباً على بقاء الوحدة الوطنية رهينة للتجاذبات الإقليمية والمصالح الفئوية، وليس أدلّ من ذلك أنه وبعد أسبوع من الحراكات الشبابية ضد الاحتلال ومع توسع حالة الاشتباك معه، و فتح جبهات جديدة لمواجهته والتصدي للجيش والمستوطنين، وصلت نقاط الاشتباك إلى خمسين موقعاً جديداً على الأقل في الضفة الغربية، كما التحق قطاع غزة المرهَق بكرمه المعروف.
الحالة الاشتباكية مع الاحتلال خرجت عن مشهدها الأسبوعي المعتاد، في النبي صالح ونعلين وكفر قدوم وغيرهم، وهذا ليس تقليلاً من شأنها على الإطلاق، فقد شكّلت النقاط المذكورة الواجهة المضيئة والعنوان النضالي والنماذج الفريدة المتبقية، بل بقصد تطهير النفس بالمصداقية وانتزاع الاعتراف المرّ بأننا تكيّفنا مع الرتابة النضالية؛ كما اعتاد الاحتلال على التعامل معها وقمعها.
في هذه اللحظة التاريخية لا بد من التقاط رسالة الشباب الواضحة دون تلكؤ أو حذلقة، والخروج من الحالة الانتظارية المتمحورة حول التفكير بجنس الملائكة وتقاذف الكرات التي تحرف الأنظار عن الحدث الرئيس، وتركيز النظر على المواجهات الدائرة وكيفية توجيهها وتوفير شروط الاستمرار حتى الانتصار.
المطلوب تركيز العقل والوجدان مع الشباب الذي هبّ دفاعاً عن كرامته وعن مستقبله، معطياً إشارة أقل قسوة لكنها واضحة إلى صانعي القرار وراسمي السياسات بتنوعهم عن مصيره وحياته.
مؤكداً أنهم أيضاً يتطلعون إلى المشاركة في تقرير المستقبل، وبأنه قد قرر الانقلاب الإيجابي على إقصائه بتقرير الحراك على الأرض، المستند إلى انغلاق الأفق أمام المفاوضات إلى أي مكان.
لغاية تاريخه، لم يصدر أي موقف عن القوى باستثناء المواقف المرحبة والاستنهاضية، كما لم يصدر عن الحراك أيضاً ما يفيد تحديد الأهداف والبرنامج والأدوات، وهو الأمر الذي ينبغي على القوى السياسية أن تبادر فوراً إلى فتح الحوار حوله بشكل ديمقراطي، الحوار الذي يجب أن يُدار ويتمأسس بعيداً عن الأهداف الفئوية والعصبوية وفتح القوس ليتسع للمجتمع المدني والقوى الشبابية التي بدأت التعبير عن نفسها على الأرض، نحو حسم التردد والانخراط الواسع وليس الرمزي؛ بالفعاليات، ليس من أجل التنافس والاستثمار والاستخدام الأناني، بل لرسم الخطوط والأبعاد والأشكال النضالية والآليات المتبعة، بما يضمن استمرار واتساع وتعميق البعد الجماهيري للحراك وديمومته، فليس لأحد الفضل الأول في صناعته.
وبرأيي يجب ألا يغيب عن البال حصيلة من الاستخلاصات والدروس للانتفاضات والهبات، المتباينة والمتعارضة في، التقييم والفهم والوظيفة، والتي كانت عاملاً حاسماً في عدم تحقيق الانتصار رغم التضحيات الجسام، بل أوصلتنا إلى انفضاض المجتمع من حول القوى السياسية والممسكين بزمام الموقف، وإلى فقدان الثقة في تمثيلها.
مع وعيي التام أن الأسئلة الدائرة لن تجد إجاباتها دفعة واحدة، لكنها ستتطور على الأرض بشرط توفر المناخ الصادق، بإطلاق العنان للمبادرات الشبابية، دون وصايا أبوية ودون مزايدات ومناقصات ووضع العصي بالدواليب، وعلى قاعدة من أراد أن يتحدث فليقل خيراً أو يصمت، فالشعب المقهور يراقب ولديه فصل المقال.
علينا إعطاء الحراك فرصته للاستمرار والتطور وبناء الالتفاف الجماهيري حوله، وتوفير شروط وعوامل ديمومته، وضمانته الإعلان عن فشل المفاوضات وسقوط أوسلو، وإعادة بناء استراتيجية نضالية جديدة توضع موضع الممارسة قولاً وفعلاً، ضمانتها تمكين مختلف القطاعات من المشاركة، والتمسك بإستراتيجية المقاومة الشعبية دون تحديد قوالب ومسميات لها.
ودون شك أن الرهان على الذات هو الأساس، والإيمان بقدرة الشباب على التخطيط والمشاركة في قيادة غير تقليدية أمر ضروري، فالمسرح ليس حكراً لأحد، وعليه، فإن اجتراح الآليات المناسبة التي تبقي جذوة وزخم الشارع في كل مكان ومجال، ووصول فكر المقاومة وثقافتها إلى قلب المجتمع واستنهاض فكر المقاطعة وتعميقها، وتكييف وتماشي وظائف السلطة بهيئاتها وموازناتها مع أولويات المجتمع الوطنية والاجتماعية، كل هذا مع الحرص على استمرار التعليم والعمل.
كل ذلك إلى جانب وضع البرامج الهادفة إلى تعزيز خطة تدويل القضية بنزعها من الوكالة الحصرية للولايات المتحدة الأميركية، وتعزيز الضغوط على النظام العربي للقيام بواجباته لعزل اسرائيل، التي يجب أن تعلم أنها باستمرار احتلالها تسير في حقل ألغام لا تملك كل شيفراته.
وأخيراً، الانتفاضة معادلة ثورية ليست مسطحة، بل حالة لها مقدمات ومراحل، كما لها عوامل نجاح وكبوات، وفي كل الأحوال، فإن أهم شروط الانتصار وحدتنا وتوحدنا، برنامجنا وانخراطنا وتنظيمنا ووعينا وديمقراطيتنا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد