عرفه العظماء ثائرا مؤمنا برسالته وقضية شعبه، وعرفته مناضلاً وطنياً غيوراً وشرساً منذ أن كنت طفلاً. عرفته رجلا عنيداً وصلبا لا يلين أو يساوم، وعرفته مبدئيا منذ أن التحق في منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها وبالثورة الفلسطينية المعاصرة وهي في ارهاصاتها الأولى. وتعرفت عليه وعلى خصاله أكثر منذ أن تبادلنا الكلمات والرسائل على صفحات من الورق منذ نحو عقد من الزمن، واقتربنا من بعضنا أكثر بعدما التقيته للمرة الأولى بين أزقة مدينة غزة برفقة الأمين العام للجامعة العربية، ومن ثم التقيته مرات عدة بصحبة أمهات الأسرى وأسرى محررين في مكتبه داخل مقر جامعة الدول العربية وسط العاصمة المصرية (القاهرة). وفي ديسمبر عام 2012 سافرت بصحبته الى العاصمة العراقية (بغداد) للمشاركة في مؤتمر الأسرى الذي نظمته جامعة الدول العربية آنذاك، ومكثنا هناك سوية بضعة أيام قبل أن نعود على متن طائرة واحدة ومتجاوران على كرسي مشترك الى قاهرة المعز، حيث كانت قضية الأسرى هي محور حديثنا الأساسي طوال الرحلة من بغداد الى القاهرة.
ومرت الأيام والشهور دون انقطاع، إما باللقاء المباشر، وإما بتبادل الرسائل الصوتية والورقية، إلى أن قررنا سويا في أكتوبر 2013 اصدار كتاب "الأسرى الفلسطينيون.. آلام وآمال" والذي يتناول حياة الأسرى وراء الشمس وحكاياتهم مع السجان الإسرائيلي وأبرز الانتهاكات والجرائم الإنسانية التي تُقترف بحقهم من قبل سلطات الاحتلال، فاقتربت منه أكثر، وتعمقت معرفتي به أكثر فأكثر، فتعلمت منه الكثير.
ذاك الكتاب الذي تشّرفت بإعداده وتأليفه وصّدر عن قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة بجامعة الدول العربية في حفل أقيم في الثامن من تموز/يوليو الماضي داخل بيت العرب وفي قاعة رئيسية داخل مقر حاضنة العرب "الجامعة العربية" بحضور معالي الأمين العام د. نبيل العربي، عمّق علاقتي وروابط صداقتي بهذا الرجل العظيم ومنحني الفرصة للتعرف على خصاله المتشبثة في أعماقه والتي تعكس اصالة منقطعة النظير، وانتماء تاريخي عميق الجذور لقضيته الفلسطينية بشكل عام، وقضية الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. انه المناضل القدير/ سعادة السفير محمد صبيح الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، ورئيس قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة بجامعة الدول العربية.
كان سندا حقيقيا للرسالة التي نحملها وللقضية التي ندافع عنها، ولقد وقف بجانبي ومنحني هذه الفرصة التي مكّنتني من توثيق التجربة الاعتقالية في السجون الإسرائيلية على صفحات من كتاب أصبح متوفرا بين يدي الجميع. وساهم معي بإنجاز كتابي هذا، بملاحظاته القيمة وإرشاداته الحثيثة ومقترحاته المفيدة، وكلماته المعبرة التي تعكس وعيا متقدما وحرصا كبيرا على نصرة قضية الأسرى والمحررين. فتشرفت بالعمل المباشر معه، واستفدت منه الكثير، وتعلمت من مدرسته ومخزون علمه، ومما قاله ودونه من ملاحظات، والتي أضافت الكثير للكتاب.
محمد صبيح وكنيته "أبو وائل" سفير مخضرم وسياسي محنك ورجل عظيم ومتواضع جداً، رجل المبادئ والقيم، رجل العمل والنشاط والحيوية، ورجل يصعب على كاتب متواضع مثلي أو حتى محترف أن ينصفه ببضع كلمات. فالرجل بتاريخه الكبير ومسيرته العظيمة أكبر من أن تصفه كلمات اللغة، وتنصفه العبارات الإنشائية. كيف لا ونحن نتحدث عن قامة عظيمة، وتاريخ عريق ومسيرة حافلة بالعطاء والتضحيات استمرت لأكثر من خمسة عقود متواصلة.
وقبل أيام معدودة شهد مقر جامعة الدول العربية "حفل وداع" بمناسبة انهاء خدمته في الجامعة، أو كما يحلو للبعض وأنا منهم - ونحن محقون في بذلك- تسميته "حفل وفاء وتقدير" لمسيرة هذا الرجل الوطني القومي بامتياز الذي كرّس حياته لخدمة فلسطين وشعبها وقضايا الأمة العربية، ويرفض انهاء الخدمة، فهو القائل لي "عطائي لأجل القضية لن يتوقف لمجرد انتهاء عملي في هذه المؤسسة. فالعطاء لا حدود له، ومساحة العمل رحبة. وأنا فقط سأنتقل من مكان لآخر".
وبقدر ما يؤثر فينا انتهاء فترة عمله في جامعة الدول العربية، إلا أن ما يخفف عنا تأسيسه لمدرسة متميزة في قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة بجامعة الدول، ووجود طاقم رائع من العاملين به حملوا القضية في اعناقهم. علاوة على أن القادم مناضل قدير وذو مسيرة مشرقة واعتقد أنه سيكون خير خلف لخير سلف.
وتشرفت قبل حوالي شهرين بتكريمه وتقديم درع الوفاء له في مكتبه باسم هيئة شؤون الأسرى والمحررين (وزارة الأسرى سابقا) بالنيابة عن وزير الأسرى والمحررين والأسرى عموما في السجون الاسرائيلية وذويهم والأسرى المحررين، تقديرا لجهوده الرائعة في خدمة قضية الأسرى والمحررين.
السفير/محمد صبيح.. ولد في مدينة القدس الشريف بتاريخ 31 تموز/يوليو عام 1938، ومتزوج وله بنت وولد، وتبوأ خلال مسيرته الطويلة مناصب عدة، أبرزها أمين سر المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك أمين سر المجلس المركزي وعضو المجلس الاستشاري لحركة فتح، وعمل مندوباً دائما وسفيرا فوق العادة ومفوضا لدى جامعة الدول العربية، وأصبح عميدا للسلك الدبلوماسي المعتمد لدى جامعة الدول العربية منذ 1994-2005. وهو يشغل منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، رئيس قطاع فلسطين والأراضي العربية المحتلة منذ العام 2005.
كما وعمل في مجالات كثيرة، وكان حاضرا في المناسبات الوطنية، وشارك في كافة مؤتمرات القمة العربية منذ 2000 ولغاية 2012. كما وشارك في اجتماعات عربية واسلامية واوروبية عديدة ممثلا لفلسطين، وكان المنسق العام للمؤتمر الدولي للتضامن مع الأسرى والمعتقلين العرب في سجون الاحتلال الإسرائيلي والذي عقد في بغداد 11و12 ديسمبر 2012.
سبعة وسبعون عاما وما يزيد ببضعة شهور، مسيرة عريقة ومشرقة، وتاريخ نضالي حافل بالعطاء المخلص والعمل المتفاني والمحطات المضيئة والمواقف المبدئية والانجازات الكثيرة. مسيرة يصعب حصرها في هذا المقام، وتاريخ لا يمكن وصفه لرجل يصعب انصافه ببضع كلمات.
دمت ودام عطاؤك أخي الكبير "أبو وائل" ودامت المحبة والصداقة.
وعلى العهد باقون
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية