عشية العيد، أتَشَهى عودتك أمي مع عطرك وتوابلك الغامضة، تضعينا على عتبة البيت وتسرعين إلى الشرفة تراقبين اتجاه خطواتنا الصغيرة؛ حفاظاً على عادتك الأصيلة في مراقبة خطواتي، كبيرة.
في أيام العيد، تقسو الذاكرة، تقضم فراغي قطعة تلو قطعة؛ بلا تحذير أو استئذان، أسمعك أمي تهمسين للجارة المقابلة: إنها الوسطى بين الأبناء والبنات، سبقها ثلاث وتبعها ثلاث، جاءت في منتصف القرن وفي منتصف السنة، لكنها تفضل الجلوس على الأطراف.
بنت متعبة، متمردة وهادئة، تحتفظ بأسرارها ولا تبوح بها إلا أثناء نومها، تكتب بشراهة وتغلق أوراقها بأقفال ومفاتيح.
كنت أكتب كي أتخلص من أوهامي وحَذّري، دون أدنى فكرة عما أريد ولمن أتوجه بكتاباتي، ولم يكن لدي فكرة عن خط البداية أو النهاية.
كنت أتخيَّل شخصاً ما يهمني أكتب إليه دائماً.. أكتب إلى الله كي أفهم منه لماذا خلقنا وأسأله عن موقفه مني، أسأله عن سرّ حكمته وبلاغة كتبه، وسر اكتساب الرضا والمحبة.
كنت أودع مخطوطاتي في دفاتري الصغيرة أو على ورق النشّاف، فأتورط بحكاية خرافية مسرفة الخيال والمشاعر.
لا أملك طقوساً محددة للكتابة، في مكتبي الضيق، أسفل سريرك، أخطُّ رسائلي، ومن ثم أنتقل للنوم بأمان أسفل سرير أبي.
وفي الصباح تسحبين رجلي وتتمتمين..أتكور تحت سريرك والغضب يلفح وجهي وأتساءل: لِمَ تشي أمي لجارتها بأسرار بيتنا..
ذاكرتي تسقط الزائد من حمولتها مع الزمن، لكنها تحتفظ بتحيزها المتطرف إلى مواعظك وإيحاءاتك، تبقيها على خضرتها؛ مشرَّبة بحساسية ما تبعث على العَطْس كلما مرت بهاراتك في المكان، تنزّ الذاكرة بنسغ اشتياقها ..تدهشني متانة الحبل السري الذي يربطنا معاً أمي.
لا يمر العيد دون المرور على قوائم الممنوعات، دواوين نزار قباني وأشعاره، قصص الحب وإطلاق القلب والأرجل مع الريح، أتملص وأتهرب من التعليمات، تعاقبينني بالأشغال الشاقة، مسح المرايا والزجاج، أعاقب العقوبة: مسح وجهي المنعكس على المرايا بالبصاق.
نتوحد أكثر ونتزامل، أرملتان أحدهما في العقد السادس والأخرى في عقدها الثالث، تنهشهما الذكريات والوحدة، نحب بعضنا أكثر.
أعوضك عن تمردي وأضعك معي أسفل سريرك، لم أعد مختلفة عن أي شيء، الفقدان يقربنا ونتقاطع في نقطة ليست وسطاً، تتدفقين في المقدمات وأتأتئ بها، تتلعثمين بالخواتم وأتألق بصياغتها.
أعترف لك بتحايلي على النظم البيتية، عبثي الدائم بعقارب ساعتك، معك تمشي الحِيَل دون عقبات، يا لنقاء سريرتك وخبثي، يا لبأسك وبؤسي.
تكثر نقاشاتنا وتتوسع، نتباحث بأثر رجعي عن الذي مضى، أسائلك فتضحكين، أسألك فترفعين حاجبيك دهشة. لِمَ يشغلك حُسْن الختام دائماً.. المصطلح الذي يقيِّد الفرح ويؤجل المرح.
منشغلة في حب الله وطاعته وتحتارين في مدى حبه لك والاكتراث بطاعتك. تنظرين أبعد من البعيد، تعيدين السؤال إلى مرماي، فأعلن ما لا تحبين سماعه، حسن الختام بالنسبة لي أن أبقى كما أنا، لأنني جزء لا يتجزأ من عجينة نظامك وأعرافك الراسخة، نتشارك في الوقوع تحت سيطرتها، ونختلف بالالتزام والانتماء لقدرها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد