"يوماً ما سنخبر أحفادنا كيف هرب العرب عبر مراكب الموت إلينا على الرغم أن مكة وبلاد المسلمين أقرب إليهم"، هذه هي العبارة الأشهر التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً، وجاءت على لسان المستشارة الألمانية أجلينا ميريكل، نقلها المغردون وفق معطى محدد وهو حالة الاندهاش من كرم الضيافة الألماني، وهي دولة معروفة بعدائها للأغراب، في مقابل إغلاق حدود معظم الدول العربية في وجه اللاجئين الفارين من جحيم الحرب الأهلية في سوريا، وهي كذلك محاولة من هؤلاء المغردين لتقليب مواجعهم في وصف الحال الذي وصلت له البلدان العربية والسياسات العربية في التعامل مع أزمات المنطقة.
في الواقع أن ما فعلته ميريكل وألمانيا تجاه اللاجئين يعطي مؤشرين اثنين: أولهما أن ألمانيا "العظمى" التي تملك أكبر اقتصاد في أوروبا، بدأت تطرق باب الكبار في العالم، فهي وإن كانت ضمن مجموعة العشرين، وضمن مجموعة السبع الكبار، لم تعد ترضى بدور 5+1، وتريد أن يكون ضمن ال 6، مع حديث يتواصل عن أهمية انضمامها كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي، ولم يعد الطموح قاصراً على كسب مودة الولايات المتحدة الأميركية، وثانيهما أن ألمانيا بلد تشيخ تدريجياً، وإذا كان عدد سكانها اليوم نحو 80 مليون نسمة، فهي مرشحة في العام 2020 أن يصبح عدد السكان 76 مليوناً فقط، وبالتالي هي في أمس الحاجة لتعزيز الطاقة السكانية والبشرية لتجديد الدماء في المجتمع الذي يرفض معظم سكانه الأصليين فكرة الإنجاب ويعتبرونها تضحية لا يقوون عليها.
لا ينبغي أن يغادر أحدنا مربع التفكير المنطقي في حقيقة ما تفعله ألمانيا اليوم، فهي من جهة تقدم تنظيراً قوياً للغاية، في نفوس النشء من الشباب العربي والمسلم، عنوانه أن المسلم الملتحي يحمل لهم سكيناً كبيرة يريد أن يذبحهم بها لأسباب يجهلونها، وأن الغربي والأوروبي ينتظرهم بلهفة حاملاً رسالة أمن وطمأنينة وسلام، وهي كذلك رسالة تعزيز الفجوة بين العربي ووطنه العربي، بعد أن أوصدت أبواب مكة والمدينة والكويت وأبو ظبي والدوحة في وجه الفارين من سوريا، مقابل أبواب أوروبا التي فُتحت على مصراعيها لإغاثة المنكوبين والمهجرين والخائفين، والترتيب الآخر في عقلية أصحاب "العرق الآري" يحمل هدية بحجم السماء لإسرائيل في الذكرى السبعين لانتهاء الحرب العالمية الثانية، ومفادها أن المشهد الذي استقبلت به ألمانيا اللاجئين من سوريا يمكن أن يكون نسخة كربونية وبطريقة أكثر ترتيباً وتنظيماً لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، فيكفي دول الاتحاد الأوربي أن تتطوع كل واحدة منها لاستقبال 200 ألف لاجئي فلسطيني حتى تختفي هذه المشكلة للأبد، وتنعم إسرائيل بشعور الأمن بديلاً عن حالة الخوف التي تلازمها منذ نشأتها في العام 1948، وهو أمر ينبغي على ساسة فلسطين أن يتوقفوا عنده طويلاً في ظل أزمات الأونروا وإدارة المجتمع الدولي ظهره لنداءات ومناشدات الأونروا التي شحت مواردها وقلت إمكانياتها وعجزت عن توفير الحد الأدنى من متطلبات إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
ألمانيا التي تبحث لها اليوم عن موطئ قدم ثابت في السياسة الدولية، تحتاج إلى دعامات لمساندة الدور والمكانة، وليس هناك ما هو أفضل من الانتقال إلى مربع الإنسانية الجمة والعمل الدؤوب لحلحلة أزمات العالم، وهنا يتوجب علينا أن نتوقف عند الزيارة المهمة لوزير خارجية ألمانيا مصطحباً معه 60 من رجالات البحث والسياسة والمال والأعمال الألمان، ووقفته الشهيرة عند مرفأ الصيادين على شاطئ غزة ، وتأمله للمشهد هو ومجموعة الخبراء، وكأنهم يقولون لنا "يا أهل غزة، جربتم الكثيرين على مدى عقود، انتظروا ما الذي يمكن للألمان أن يفعلوه"!!!

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد