علينا أن نخجل مما فعلناه للقدس والأدق علينا أن نخجل مما لم نفعله... ليس المقصود هنا نحن الفلسطينيين بل نحن العرب جميعاً حين تركنا أولى القبلتين وثالث الحرمين وحيدة بين أنياب الذئاب ينهشون لحمها ويطحنون عظامها ويدوسون شرفها وشرفنا جميعاً ونحن لا نملك سوى الصراخ والعويل فيما إسرائيل تسير قدماً نحو إحكام السيطرة التي اكتملت حتى وصلت للمسجد الأقصى فقد حاصرتها بالمستوطنات الضخمة .. بدأت بالدوائر الخارجية وتعمقت حتى وصلت للقلب وكأننا لم نعرف.
صحيح أننا نحن الفلسطينيين لم نبخل على قدس المسلمين والعرب والعالم وقدمنا نهراً من الدم حتى يرفرف العلم الفلسطيني على قمم جبالها، لكن العرب تركوها عارية وهي اليوم تصلبهم جميعهم عراة على صلبان كنائسها وأهلة مساجدها لأنها لم تجد سوى أطفال القدس ونساء القدس اللواتي سحل المحتل أجسادهن على شوارعها في مشهد ربما يضع كل الرجال عرباً ومسلمين الذين تنتظرهم القدس أمام ضرورة الاختبار.
إسرائيل تدفع ظهرنا للحائط جميعاً فبساطير الجند داخل المسجد الأقصى هو أقسى ما يمكن أن يحتمله الفلسطيني وسط حالة الحياد العربية تجاه القدس ومعاركها، فهناك تعيد إسرائيل صياغة تاريخ المدينة وهي تذبح وريدها العربي وتغير مجرى دمها وتعيد صياغة ملامحها التي لم يبق منها سوى المسجد الأقصى .. قفوا على طرف المدينة وانظروا فلولا قبة الصخرة تبدو المدينة يهودية بامتياز ولا شك أن مشهد القبة هو التحدي الوحيد الباقي الذي يكشف زيف الأسطورة وزيف الواقع.
نخطئ إذا اعتقدنا أن الهجوم الإسرائيلي على القدس سيتوقف عند هذا الحد في ظل حالة العجز التي تلف الجميع بدءاً من الفلسطيني المنقسم، مروراً بالعربي المحايد، وصولاً للدولي المتواطئ بالصمت .. فإسرائيل تنزاح نحو اليمين والقدس في العقل اليميني القومي والديني باعتبار أن القومي هو الابن الشرعي للثقافة الدينية.
هكذا الأمر في إسرائيل لأنها الدولة الوحيدة التي يتطابق في بطاقة هويتها القومية والدين، فكلما أوغلت في اليمين كلما زاد الاستهداف وصولاً لهدم الأقصى وهذا واضح إذا ما ربطنا بين تصاعد اليمين وتصاعد الهجوم على الأقصى.
هناك جمعيات يهودية نذرت نفسها لهدم المسجد «عطيرت كوهانيم» و «أمناء جبل الهيكل»، وقد تم بناء كنيس الخراب مقابل الأقصى ويضم هذا الكنيس كل معدات الهيكل اللازمة حين يهدم المسجد ويبنى الهيكل، فهناك موجود مجسم الهيكل الذي سيقام وملابس سدنة الهيكل التي قامت بحياكتها عائلة يهودية تعمل بالحياكة وسكين الذبح الذي تم صناعته في الولايات المتحدة والبوق، ودكة الذبح التي استخرجت من أحد معامل الرخام في الغور كل هذا بانتظار ساعة الصفر أو حتى يرسل الرب البقرة الحمراء التي ظهرت مرتين لولا تلك الشعرة التي رآها بالصدفة ذلك الحاخام حين استخدم عدسة مكبرة .. إنها الشعرة التي فصلت بين الأقصى وهدمه.
إن من يتابع يدرك خطورة الأمر وحتى لا نصحو يوماً على الكارثة ونبرر بأننا لم نكن نعرف أن الأمر سيصل إلى هذا الحد ونعبر عن غضبنا بالبكاء على أطلال روحنا التي انتزعت منا .. هكذا هو الأمر فالقدس هي الروح وحين يقترب منها الخطر لا بد من ارتعاشة قوية للجسد وتخطئ إسرائيل إن اعتقدت أن هذا الجسد سيسلم روحه وإن كان كل ما تمارسه ليس عشوائياً بل منظماً ومن الممكن قراءته في سياق تأهيل الفلسطينيين والعرب والمسلمين على بروفة ما هو قادم .. تأهليهم على التدجين حين يهدم المسجد.
إسرائيل المسلحة باليمين والعقل التوراتي المدجج بالأسطورة والسلاح قلبت كل حجر في القدس باحثة عما يؤكد روايتها وحين لم تجد تريد للقوة أن تصنع ذلك التاريخ، وهناك إجماع بين كبار علماء الآثار اليهود بذلك من ريئيف هرتسوغ كبير الباحثين الأثريين الذي قال كلمته الشهيرة بعد عقود من الحفر وهو يكتشف كلما أوغل في البحث آثاراً كنعانية في القدس قال: «علينا أن نرفع قبعاتنا احتراما للكنعانيين»، مروراً بالبروفسور رئيس علماء الآثار «إسرائيل فلكنشتاين الذي قال: «لم تقم مملكة يهودا في القدس»، وصولا للمؤرخ البارز شلومو ساند صاحب كتاب «اختراع الشعب اليهودي».
ليس مهماً هنا نقاش الأسطورة والعلم في عصر القوة، فلو كانت القدس بأيدي العرب والفلسطينيين فلا مشكلة أن يزورها كل من يعتقد بقدسيتها ويمارس شعائره فيها من يهود ومسيحيين لكن المسألة هنا مختلفة فإسرائيل تريد أن تنفي كل شيء يخص الأديان الأخرى وتغلقها مدينة حصرية على اليهود واليهودية وتعمل كل شيء من أجل ذلك وليس في هذا مساس فقط بالعرب والمسلمين بل بالمسيحيين الذين لهم تراث طويل في تلك المدينة التي شهدت رحلة آلام المسيح لكن شعبه الذي ظل معلقاً على الصليب يشهد هذا الحياد العربي الجارح والصمت الدولي المساند لمجزرة القدس كما كل المجازر التي صبغت تاريخنا لكنها هذه المرة مختلفة.
لكن التجربة الطويلة قالت إنه ليس للقدس سوى أهلها وليس للأقصى سوى سدنته الذين ألقى بهم القدر هناك .. وإن من صمت على كل هذا التاريخ الطويل من احتلال مدينة الله وتغيير ملامحها لن يقف أكثر حين تهدم آخر معالمها، وكم مرة قال الفلسطينيون «يا وحدنا» .. علينا أن نعرف أنه لا العالم ولا الدول العربية ولا الجامعة ولا منظمة التعاون الإسلامي ولا الدول الإسلامية تستطيع أن تتمكن من لجم يد الشر الإسرائيلية هناك وعلينا أن نثق بما نملكه من فائض إرادة ، فنحن في الضفة الغربية وقطاع غزة يمكن أن ننضم لهذا العالم الساكن لأننا لا نفعل سوى الكلام دون برنامج ودون فعل متواصل فالمظاهرات والبيانات والتحذيرات لن توقف إسرائيل.
لكن الفصائل والقوى تملك امتداداً في القدس وفي كل مرة نتساءل ألا تستطيع هذه القوى أن تخرج مسيرات بعشرات الآلاف .. ألا تستطيع إرسال الآلاف من عناصرها كدرع بشري يلتف بصدره العاري المسلح بالإرادة حول الأقصى .. إن ذلك ممكن وهذا ليس أضعف الإيمان لأننا نقارن قوة وثقل الفصائل فيما لو أعلن عن انتخابات في القدس سنرى فعل الفصائل وحضور الفصائل ودعايات الفصائل .. سنرى سرادقات تنتصب في الشوارع ومبايعين وناشطين ومؤيدين وسنرى أيضاً من يستفز الإسرائيلي رغبة في صورة تلتقطها الكاميرا كجزء من الدعاية ... هذا رأيناه سابقاً وحين يتعلق الأمر بالأقصى غاب كل ذلك .. لدينا من القوة ما يمكننا من التصدي ... هناك في القدس، فلتحرك الفصائل مؤيديها فهم بعشرات الآلاف هكذا قالت صناديق الاقتراع ذات مرة، فأين هم؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية