رحم الله الشاعر العراقي المتمرد مظفر النواب، الذي استفاض مبكراً في رثاء زعماء العرب، الذين يتركون قدس عروبتهم تصرخ من شدة الألم بينما هم في غيهم يعمهون.
كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي ولم تكن أيادي الاحتلال الغاشمة قد مدت حرابها لكي تخلع قلب عروس العرب والمسلمين بعد أن اغتصبتها.
الحديث منذ بعض الوقت لم يعد متركزاً على الاستيطان المستشري في كل أنحاء المدينة، وعمليات التهجير والاقتلاع لأصحابها الفلسطينيين وزراعة شذاذ الآفاق مكانهم عنوة وفوق رؤوس الأشهاد وإنما بدأ يتركز حول المسجد الأقصى، كعنوان يرمز إلى التاريخ، والحق والقيم، والدين، وأصول الأشياء والممتلكات، وإلى هوية أهل الدار.
ثمة تحدٍ ما بعد تحدٍ، ليس فقط للمسلمين الذين يزيد عددهم دون بركة عن المليار ونصف المليار، وليس فقط للعرب الذي يناهز عددهم الأربعمائة مليون، وإنما يمتد هذا التحدي ليطال إضافة إلى ذلك ملايين المسيحيين، ف القدس ليست دار الإسلام وحده، وإنما هي منشأ الديانات التوحيدية.
لم تنته معركة الاستيلاء على القدس، فالكثير من أهلها لا يزالون صامدين رغم قلة الإمكانيات وقلة الحيلة، وغياب الدعم ولكن اسرائيل أرادت أن تذهب مباشرة إلى القلب لكي تستولي عليه، ومن هناك تحسم المعركة لصالحها، فإن سقط المسجد الأقصى، سقطت القدس، وسقط حق فلسطين وحلم شرّعته الأمم المتحدة وكل دول العالم، بما في ذلك تلك التي تتبنى كل السياسة الإسرائيلية وتلبس ثوبها.
القدس باعتراف الأمم المتحدة، ودول العالم هي جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة منذ عام ١٩٦٧، والتي تتظاهر الولايات المتحدة، بأنها ستكون أرض الدولة الفلسطينية الموعودة.
تختار اسرائيل الظروف المناسبة لحسم هذه المعركة التاريخية الكبيرة والاستراتيجية، فأوضاع الفلسطينيين ليست على ما يرام، بل إنهم يعانون أمراض الانقسام، والتردد والضعف، والتي توفر للعرب المنشغلين في أوضاعهم المتردية والممزقة، ومخاوفهم من الإرهاب، والصراع، توفر لهم ما يفتقدونه ويبحثون عنه من مبررات للتنصل من مسؤولياتهم تجاه القضية الفلسطينية وأهلها وكل مفرداتها.
من العتب التوجه بالنداءات لعرب يشيحون وجوههم، ولا يتحسبون إلا من خوف ضياع عروشهم، فهؤلاء لم يعودوا يملكون القدرة على انقاذ انفسهم من اعدائهم، بأنفسهم ساهموا في صناعتهم وتكبيرهم وتضخيم أدوارهم.
المسلمون عدا انشغال بعضهم في هموم مماثلة لما يتعرض له النظام العربي، أو يخشون أن تصلهم النيران، باتوا منقسمين بين سنة وشيعة، يتقاتلون على الدب قبل صيده، فلا السنة لديهم الوقت والإرادة لأن يظهروا اهتماما بما يعانيه أهل السنة في فلسطين ولا الشيعة، مستعدون لأن يخوضوا معارك السنة، ولكل فتواه التي تبرر تنصله من المسؤولية عن الحقوق المسفوكة.
سنسمع هدير أصواتهم وتنافخهم على القدس والمسجد الأقصى، وستنعقد مؤتمرات كثيرة، ليس لنصرة القدس التي تسجى على فراش الاحتضار، وإنما للبكاء على أطلالها، والنحيب على جثمانها.
اسرائيل أيضا، اختارت الظرف الدولي الذي يناسبها، ويمنع وقوع ردات فعل أو انتقادات يمكن أن تجبرها على التراجع أو التوقف، فالولايات المتحدة أشاحت بيدها عن ملف التسوية وأوروبا الغربية لا تزال مترددة في أن تلعب دور البديل، أما الأمم المتحدة، فهي مأسورة من قبل الأميركي.
والأصل هو أن علينا الإقلاع عن وهم انتظار موقف نزيه من قبل الولايات المتحدة التي سبقت اسرائيل في تحذيرها وتهديدها للسلطة الفلسطينية إن هي فكرت في إلغاء أو مراجعة بعض بنود اتفاقية أوسلو، التي تلحق أضرارا بإسرائيل.
كان الهدف المعلن للسياسة الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى، هو أن تفرض عليه وفيه تقاسماً زمنياً ومكانياً على غرار ما فرضته على الحرم الإبراهيمي في الخليل، ولكن وطالما أن الظروف مواتيةً فإنها تجاوزت ذلك إلى الإطاحة بالمسجد وحرمه، واقامة الهيكل الثالث المزعوم محله.
لذلك فإن اسرائيل تواصل العمل والحفريات تحت المسجد الأقصى، وتواصل الهجمات والاقتحامات للمسجد فوق الأرض، وبانسجام كامل ويومي بين قطعان المتطرفين، والمستوطنين والأجهزة الأمنية والشرطية والعسكرية الرسمية.
تدرك اسرائيل أنها لا تواجه احتمال اندلاع انتفاضة شعبية عارمة، وكل ما يمكن أن تتوقعه، هو هبات شعبية معزولة في كل مدينة وقرية وبلدة فلسطينية، هذا بالإضافة إلى البيانات والتصريحات والتظاهرات، التي تنتهي بخطب نارية، لا يبقى من نارها سوى دخان خفيف سرعان ما أن يتبدد في سماء الأزمات التي تعصف بكل مكان وزاوية على الأرض الفلسطينية.
من العجب ألا يبادر الفلسطينيون إلى التوافق على كيفية خوض المعركة لحماية القدس، وهي واحدة من القضايا التي لا يختلف عليها اثنان.
قد يستمر الانقسام والخلاف حول قضايا كثيرة ولكن كثيرة القضايا ومنها قضية القدس، التي يتوفر حولها إجماع وطني.
هنا نريد أن نحذر من أن يتخذ البعض من قضية القدس، ذريعة لإقحام قطاع غزة مرة اخرى في حرب جديدة، من شأنها أن تضاعف الدمار والثمن، دون أن تحقق هدف ردع اسرائيل، أو إفشال مخططاتها.
في هذه الحالة سيكون الدافع الأساسي غير المعلن هو تحريك الأوضاع المتأزمة والمتفاقمة بحثاً عن مخارج لمصلحة بعض الأطراف.
المطلوب أن يخوض الفلسطينيون معركة الدفاع عن الأقصى ومقدساتها ابتداء من القدس ثم بقية أنحاء الضفة الغربية، وأراضي عام ١٩٤٨، وفي هذه الحالة سيكون لجماهير غزة، دورها كما كان الحال دائماً، وهو دور تفرضه الظروف، والإمكانيات، ومدى الفعالية والتأثير.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية