لا يمكن اعتبار أن عمليات الاقتحام المتتالية التي تقوم بها مجموعات يهودية متطرفة بمواكبة شخصيات رسمية بمستوى وزراء عمليات عفوية أو مخططة فقط على مستوى العصابات المتشددة، بل هي قرار رسمي إسرائيلي اتخذ على أعلى مستوى، فعندما يقرر رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو ومجلسه الوزاري من يدخل ومن لا يدخل وعندما يمنعون طلاب المصاطب الدينية والمرابطين من البقاء في الحرم القدس ي فهذا له دلالته. فالمعروف أن الذين يتواجدون في الأقصى لا يعتدون على أحد ولا يمارسون العنف ضد أحد ولكنهم يمنعون بأجسادهم العارية إلا من ملابسهم أي انتهاك لحرمة المكان أو مساس بقدسيته، وبالتالي فإخراجهم من باحات الأقصى وأماكن العلم يأتي لتمرير سياسة مبيتة تقوم على الاقتحام المتكرر ومن ثم تغيير الأمر الواقع في الحرم. ولا يمكن أن تصبح زيارات المتطرفين اليهود أمراً طبيعياً ومتكرراً في ظل وجود حماة الأقصى. إذن، فعنوان الهجمات هو إخلاء المكان للمجموعات التي أخذت على عاتقها بناء الهيكل اليهودي الثالث في الحرم كتثبيت لادعاء كاذب لم تثبت صحته أي حفريات أو مكتشفات علمية مفاده أن الهيكل الثاني مدفون في المكان. ولقد حفرت إسرائيل الأرض في كل الاتجاهات وتحت المساجد وعملت أنفاقاً لتجد ولو دليلا صغيرا على أي شيء يقول إن الهيكل هنا وباءت كل جهودها بالفشل. وخرج بعض علماء الآثار الإسرائيليين لينفوا ما قيل أنه رواية توراتية للمكان، بل أن بعضهم قالها بصراحة إن «التوراة لا تصلح للتأريخ».

الموضوع إذاً تثبيت رواية تاريخية بالقوة بعد أن عجزت القيادات الصهيونية عن تثبيتها بالعلم والمكتشفات الأثرية، وهذا في الواقع ليس مجرد صراع بين روايتين بل هو في جوهره صراع على الأرض، لأن أكذوبة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» تلاشت بعد اعتراف العالم بأسره بشعب فلسطين وحقه في أرض وطنه، حتى أن الحكومة الإسرائيلية اعترفت بالشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد منظمة التحرير، ولكنها لم تعترف بحقه في أرض وطنه وبقيت الأراضي المحتلة منذ العام 1967 أراضي من حق اليهود وفي أحسن الأحوال أراضي متنازعاً عليها. وهكذا عندما تفرض إسرائيل سيطرتها على أي بقعة هي بحاجة للقوة وفرض الأمر الواقع، بعد ذلك تأتي الرواية وليس مهماً عندها إذا ما نجحت في تغيير التاريخ أو لا فمن وجهة نظر البشر التاريخ يكتبه الأقوياء أو المنتصرون.
نحن في صراعنا على القدس نخوض حرباً ليس فقط على قطعة مهمة من الأرض بل أيضاً على جوهر وجودنا وحقنا في هذه البلاد وتاريخنا وتراثنا الذي يراد له أن يشطب بقوة الاحتلال والظلم، والحكومة الإسرائيلية تدرك أن الفلسطينيين لن يتنازلوا عن القدس ولكنها تطمح لأخذ حصة كبيرة منها كي لا تصبح فلسطينية.
وأفضل الطرق لتثبيت تقسيم المكان زمانياً أولاً ثم مكانياً بعد ذلك إذا نجحوا في بناء أي شيء داخل الحرم وأسموه هيكلاً أو غير ذلك، هي التصعيد والبحث عن صدام دموي رهيب أو حتى عن مجزرة ولا يهم كم عدد الفلسطينيين الذين سيقتلون بل ليس مهماً كم عدد الإسرائيليين الذين سيذهبون ضحية سياسة حكومتهم، وحصول هذا الأمر الرهيب في القدس سيكون الذريعة الملائمة للسيطرة على المكان وتغيير الوضع الراهن فيه، على خلاف ما يدعي نتنياهو ليل نهار أنهم لا يريدون تغيير الوضع الراهن.
التجربة الأبرز والأهم التي حدثت في إطار تغيير الأمر الواقع في الأماكن المقدسة ما حصل للحرم الإبراهيمي بعد مجزرة باروخ غولدشتاين في عام 1994، فرغم أن الفلسطينيين هم الذين دفعوا الثمن بسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى إلا أنهم خسروا أكثر من نصف الحرم وسيطرت السلطات الإسرائيلية عليه تماماً بذريعة حفظ الأمن وهكذا خسرنا المعركة ببساطة وتغير واقع المكان، ولم تستطع القيادة الفلسطينية ولا اتفاق» أوسلو» الوليد في تلك الفترة تعديل القرارات الإسرائيلية بل جرى تكريسها في تقسيم الخليل إلى مناطق فلسطينية وإسرائيلية حتى في قلب المدينة وسوقها المركزي ومنطقة الحرم، وهي تجربة مأساوية بكل معنى الكلمة ولا يزال المواطنون في الخليل يدفعون ثمنها على جلودهم يومياً.
وقد تلجأ الحكومة الإسرائيلية إلى نفس السيناريو، فنتنياهو الذي وقع على اتفاق الخليل، وهو في موضوع القدس ليس بحاجة للتوقيع، فهي تقع تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة بل أنها ضمت رسمياً لإسرائيل، وما يحتاجه فقط صمت العالمين العربي والإسلامي، وهذا ليس بالأمر الصعب، فما نسمع من مواقف حول القدس ليس أكثر من ضريبة كلامية، والعرب يعيشون حالة ضعف وفقدان ثقة بالنفس بعد أن قاموا بتدمير قواهم ذاتياً والتآكل الداخلي هو سيد الموقف. ربما الأردن من بين كل الدول العربية تستطيع فعل شيء إذا وضعت القدس في سلة واتفاق السلام مع إسرائيل في سلة أخرى واتخذت موقفاً حازماً بإعادة النظر في الاتفاق مع إسرائيل، وهذا أيضاً مرتبط بعوامل داخلية وخارجية مؤثرة في سياسة الأشقاء.
الصحيح أن الفلسطينيين وحدهم قادرون على قلب الطاولة وإعادة تغيير الموازين إذا ما قرروا ذلك وإذا ما وضعت قياداتهم المصلحة الوطنية فوق أية مصالح ذاتية أو فئوية، ولكن تجربة التعاطي مع الانقسام الذي ترتب على انقلاب « حماس » على السلطة وتوزيع الوطن بين سلطتين وكعكتين لا يبشر بأننا قادرون أو راغبون في وضع حد لهذا العدوان الإسرائيلي الذي يستهدف ما تبقى من القدس بعد أن جرى تهويد معظمها، وسنظل نصرخ ولا مجيب.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد