بعد أخذ ورد وسجالات إعلامية متخمة بالشعارات والمزايدات، تم تأجيل جلسة المجلس الوطني الذي كان يفترض أن تنعقد في هذه الأيام إلى نهاية العام وسط ترحيب عارم من الفصائل والشخصيات المستقلة. وثمة من قال إن التأجيل مصلحة وطنية وأن الوضع الدقيق الذي يمر به الوطن يتطلب التأني والتحضير حتى تنقذ دورة المجلس الوطني الوطن المنقسم والمكبل باحتلال يزداد شراسة وعنصرية وعنفاً. كل هذه مسوغات منطقية ومقبولة إذا ما أخذت بسطحيتها ودون الخوض في المأزق العميق الذي يعيشه النظام السياسي الفلسطيني برمته وتحديداً الفصائل الفلسطينية.

أزمة التكلس وعدم تجديد الدم في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ما هي إلا انعكاس للتكلس والجمود الذي يشل فصائلنا السياسية فهي إما تعاني من متلازمة التخليد وانعدام البدائل المصطنع أو متلازمة التمترس في مربع الخطاب الخشبي المستحضر من زمن ولى ولن يعود. بمعنى آخر، الفصائل إما أن تعيد تكرير ذات الوجوه "التاريخية" دونما التفات للحاجة الملحة لإتاحة المجال للكوادر الشابة وكأنها تؤمن أن قياداتها من المؤسسين خالدون وأن لا حاجة لنقل خبرتهم لمن بعدهم؛ أو أنها متمترسة في مربع الشعارات والمرافعات البلاغية التي كانت لغة العصر قبل عقود ولت وإلى غير رجعة! وفي كثير من الحالات، هناك من الفصائل من يعاني من المتلازمتين معا... ومع أن فضاءاتنا الإعلامية تكتظ بالمزايدات السياسية والمناكفات على شكل المواعظ الوطنية والحزبية، إلا أن حالة الأزمة والتكلس العامة هذه لا تغيب عن الرأي العام الفلسطيني الذي يقرأ أزمة فصائله بكل دقة وانكشاف بينما هي تعيش أزمة الإنكار والغرور غير المبرر.

وبالعودة للمجلس الوطني، فقد كشفت بعض المواقف حول تأجيله وانعقاده ومهمته الكثير فيما يتصل بعمق أزمة الفصائل وفلس مخزونها الفكري. البعض حذر أن انعقاد المجلس الوطني بهذه الطريقة سيكرس الانقسام المستمر منذ ثماني سنوات وكأن هناك بوادر لإنهاء الانقسام الخطيئة وجاءت الدعوة لتفشل هذه المساعي! الانقسام واقع تكرسه الضرائب التي تفرضها حركة حماس على بضائع الضفة الغربية وتعززه استدعاءات استخبارات الحركة لأي مواطن يصل رام الله حتى تعرف ما علاقته بالكيان اللدود وما أسبابه لزيارة بقايا الوطن... وان غضينا النظر عن علامات الانقسام الكامل هذه، فيصعب تجاهل حقيقة أن حركة حماس ومعها (أحيانا) الجهاد ولفيف من المجموعات المستحدثة والطارئة تطالب بتغيير منظمة التحرير قبل الدخول فيها – حتى أن البعض، مثل القيادي الحمساوي القوي محمود الزهار - طالب باستبدال المنظمة بأخرى على مقاسه ومقاس مواقفه الحزبية والفكرية.

وهناك من الأحزاب العريقة في منظمة التحرير من يحلل الموقف باستمرار ويشخص الأزمة – باعتبارها عند غيره بطبيعة الحال – ثم يتحدث عن القوى التقدمية واليسارية في المجتمع حتى يهيأ لقارئ البيانات أن المجتمع مصطف في طوابير الطلائع الماركسية ومستعد للقتال لنشر الفكر التنويري واليساري... لكن الكلام البليغ هذا يصطدم أمام الواقع المرير الذي انحسر فيه وجود الفكر اليساري إلى منتديات الحوار وبعض المقالات وذكريات العصر الذهبي لمن عاشه أو عاش في ظله. واقع اليسار يتجسد في العرض العسكري لطلائع الجبهة الشعبية الذي نظم قبل أيام وظهرت فيه رفيقات محجبات وغير محجبات بالزي العسكري لتصطدم الرفيقات بردود أفعال تنكر على المرأة الفلسطينية تاريخها العريق والطويل في الكفاح المسلح وتريد فرض قالب محدد ومكمم للمرأة حتى وإن كانت تنتمي لفصيل يدعي العلمانية!

وفي النقاش الدائر أيضاً حول أزمة الوطن، هناك من الشخصيات الحزبية وغيرها من يذهب بعيداً في لعن الواقع واختزال الأزمة باتفاقية أوسلو باعتبارها أم الشرور كلها فيدعو إلى "التحرر" من أوسلو دون أن يجرأ على طرح فكرة متكاملة وقابلة للتطبيق كبديل لأم الشرور تلك... لكن العزوف عن طرح البدائل لا يأتي من كون البدائل معروفة وواضحة للجميع بل مرده انعدام للرؤية واختزال دور المشاركة السياسية (معارضةً ومستنكفين) بلعن الواقع ومسبباته والمطالبة باستحضار أجزاء من زمن ولى – يساق على أنه كان جميلا ودونما عيوب – دون أن تشعر هذه الفصائل أن وجودها وفاعليتها ووزنها مقترن بأهمية ما تطرحه من فكر ورؤىً سياسية. هذه الفصائل تلعن اتفاقية أوسلو وتطالب بإلغائها ثم تثور ثائرتها على "الشرعية" المتمثلة بمؤسسات أوسلو ووزاراتها ومجلسها التشريعي وموازناتها. هذه الفصائل أيضاً تجلد الذات الفلسطينية بالحديث عن التنسيق الأمني واتفاقيات التبعية الاقتصادية، مصورة شريحة من أبناء شعبنا على أنهم أتباع للاحتلال ومتجاهلة في ذات الوقت ودونما أي براءة الوشوشات والدردشات والتنسيق الذي يجري من تحت الطاولة وحولها. وتطالب بإلغاء هذا "العار" متجاهلة واقع الاحتلال الذي يتحكم بأصناف الخضار الذي نأكله ومقاس الأنابيب التي نمدها لشبكات الصرف الصحي في مدننا! وأخيراً، يعفي هؤلاء أنفسهم من طرح البدائل العملية للواقع الذي يلعنونه ونلعنه جميعاً وكأنه خيار وليس جزءا من واقع الاحتلال.

الفصائل كلها تتعامل مع أزمة الواقع السياسي الراهن وكأنه نتاج عمل غيرها، نافضة يدها من عبئ الحقيقة والمسؤولية التي هي شريك أصيل فيهما شاءت أم أبت. وما يزيد الطين بلة هو أن النهج الفصائلي هذا يتجاهل وجود رأي عام فلسطيني سئم الخطابات والشعارات والمزايدات ويستحق أن تطرح فصائله رؤىَ وأفكار للخروج من الأزمة وليس وصفات وهمية تبدو أنها سحرية لإنهاء الاحتلال والانقسام.

الفصائل والقيادات ليست قدراً لأن قدر الشعوب هو الحياة والتطور وملئ الفراغ حيث وجد لتصل إلى مبتغاها مستندةً إلى حقيقة أن التاريخ لم يوجد بعد أشخاصاً أو حركات أعظم من شعوبها. لذا، السؤال الجوهري الذي ينتظر الإجابة خلال الثلاثة أشهر القادمة: هل هناك من أو ما سينقذ الفصائل من نفسها، وهل ستتمكن من التحرر من متلازماتها وانفصامها عن الواقع لتكون دورة المجلس الوطني انطلاقة جديدة للنظام السياسي الفلسطيني؟ سؤال يقرب للهم والأيام كفيلة بكشف الإجابة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد