بارقة أمل وسط ركام غزة..بقلم:مامادو صاو

استقبلتني بحفاوة في ذلك المأوى الخشبي بالقرب من البقعة التي كان يحتلها منزلهم يوما ما، في الخارج تتناثر أشلاء ما تبقى من حياتهم السابقة بين أكوام الركام، في الداخل بالكاد وجدت مكانا لأجلس فيه، قدمت لي كوبا من الشاي قبل أن تحكي لي قصة ألفتها أذناي وقعت أحداثها منذ عام واحد، استحضرت إلى ذهني وقع القصف والرصاص وأجواء الرعب التي عايشوها، أخذت رشفة من كوبي وأنصتُّ إليها.


تبلغ عائشة من العمر 17 عاما، في مثل عمر ابنة أختي، عندما اندلعت الحرب بين إسرائيل و غزة مجددا منذ 12 شهرا مضت شاهدت عائشة بعينيها مقتل أبناء عمها، وإصابة أمها إصابة مُقعِدَة، وفقدان أبيها إحدى عينيه، عائلة محطمة بعد أن تهدمت الجدران التي كانت تُنسج خلفها قصص حياتهم، واليوم يكتظ مسكنهم المكون من حجرتي نوم فقط بـ11 فردا من الأقارب الذين فقدوا منازلهم، ويبحثون عن سبيل ليعيدوا بناء حياتهم من جديد، حاولت عائشة أن تتمالك مشاعرها، لكن دموع الألم خانتها.


تلك هي غزة اليوم، مكان تعد الكهرباء فيه مظهرا من مظاهر الرفاهية، وحيث تغلب العشوائية على إمدادات المياه، في ظل انعدام أي بادرة في الأفق لإعادة بناء المنازل التي تهدمت منذ عام مضى.


قال لي رجل ذات مرة "أن تعيش في غزة يعني أن تعيش في خوف دائم، خوف من أن تفقد أغلى ما لديك في لمح البصر: أبويك، أبناءك، والمنزل الذي أفنيت عمرك في بنائه، وحياتك كلها".


ثلاث حروب على مدار ست سنوات أنهكت إلى أقصى حد سكان القطاع الذين يقارب تعدادهم مليوني نسمة، وخلفت حالة من الخوف تخيم على المجتمعات المحيطة به، فكيف يمكن للمرء أن يخطط لمستقبله إذا كان لا يعلم ما الذي يخفيه له يومه؟


لقد قدم سكان القطاع برهانا حيا على طبيعة النفس البشرية التي لا تقهر وهي تكافح بعزيمة لا تلين للعيش بصورة طبيعية في مواجهة الظروف السائدة، لكن سكان قطاع غزة وغيرهم في الأماكن المجاورة في إسرائيل يستحقون حياة أفضل من حالة عدم اليقين التي يعيشونها، ذلك أن الوضع الراهن يعد هشا، ولا يمكن التعويل على صموده.

على مدار عقود عدة، كانت اللجنة الدولية للصليب الأحمر واحدة من أكبر المنظمات الإنسانية حضورا في قطاع غزة، وتواصل مسيرتها في بذل كل ما تستطيع للمساعدة في تلبية الاحتياجات الأكثر إلحاحا للسكان المحليين، فمنذ انتهاء النزاع الذي وقع هناك مؤخرا تولت اللجنة الدولية أعمال إصلاح في العديد من المستشفيات، ومساعدة المصابين إصابات بالغة من سكان القطاع في الحصول على رعاية طبية وإعادة تأهيل بدني عالية الجودة، كما يسرت تطهير الأرض من الذخائر غير المنفجرة، وأعادت تسوية مئات الهكتارات من الأراضي الزراعية لجعلها صالحة للزراعة من جديد.

بالإضافة إلى ذلك، ساعدت اللجنة الدولية في إعادة توفير المياه وخدمة الصرف الصحي المحسنة لما يقرب من ستمئة ألف شخص، بيد أن الكثير من السكان لا يتعدى حلمهم مجرد أن يجدوا أربعة جدران وسقفا تؤويهم.

"ظن جميع سكان الحي أنني مت"، هكذا أخبرتني حنان ببساطة كما لو كانت تروي أحداث فيلم شاهدته. وتابعت "لكنهم انتشلوني من بين أنقاض منزلي، وعندما أفقت وجدت نفسي بين ذراعي عمي، ثم أخذوني إلى المستشفى".


منزل آخر، وموقع قصف آخر، فتاة يافعة أخرى، وحياة معلقة أخرى، تعيش حنان الآن مع أسرتها في خيمة مهترئة متشبثين بحطام منزلهم السابق، تواجه حنان مع أسرتها -شأنها شأن عائشة- الظروف الحالية بحكمة وثبات ينمان عن رجاحة العقل.


يجب إعادة بناء المنازل المدمرة على جناح السرعة، ولا يزال هناك عمل كثير ينبغي القيام به، فإمدادات الكهرباء المتوفرة حاليا -والتي لا تعد كافية إلى حد كبير- لن تصمد أمام احتياجات السكان المنزلية، كما لن تسمح بنمو مشاريع صغيرة وتشغيل المستشفيات، في الوقت الذي تعد فيه تلبية احتياجات القطاع الصحي -ولا سيما توفير الأدوية وسداد رواتب الموظفين الحكوميين- مطلبا ملحا.


وقد تعهدت اللجنة الدولية بالاستمرار في مساعدة سكان القطاع للتعايش مع أوضاعهم الصعبة، لكن على السلطات على الجانبين -الإسرائيلي والفلسطيني- والمجتمع الدولي أن تدرك جميعا أن عدم التحرك العاجل سيفضي إلى عواقب لا تحمد عقباها.


فبعد عام من وقف إطلاق النار نحن بحاجة إلى بذل جهد فعلي للوصول إلى حلول مستدامة وذلك لمصلحة الجميع، وثمة حاجة إلى أن يعم الأمن قطاع غزة وجنوب إسرائيل، وهناك أيضا حاجة لرفع القيود المفروضة على القطاع، ذلك أن حاجة سكان غزة لبناء حياتهم من جديد واستعادة سبل معيشتهم وأملهم في مستقبل آمن كريم تفوق حاجتهم للمساعدات الإنسانية.


حتما سيأتي يوم يدرك فيه العالم أن قدرة سكان غزة على الصمود لن تدوم طويلا، ولقد حان الوقت لأن ينعموا بفرصة العيش بأمان، ولأن يشعروا بأن السلطات المعنية بالقطاع والمجتمع الدولي تعمل لتلبية احتياجاتهم بعيدة المدى، لقد وصلت الأوضاع في قطاع غزة إلى المرحلة التي وصفها مارتن لوثر كينغ بـ"الحاجة الملحة لهذه اللحظة".


لكنني أعود لأقول إن هناك بارقة أمل وسط كل هذا الركام، فحنان تتمنى أن تصبح طبيبة يوما ما، في حين ترغب عائشة في أن تصبح ممرضة، ولقد نالتا أعلى الدرجات في امتحانات نهاية العام للثانوية العامة، فعلى الرغم من كل شيء تتطلع كلتاهما إلى مستقبل أفضل شأنهما شأن آلاف الشباب من أهل القطاع فعلينا ألا نخيب آمالهما.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد