في الانتفاضة الثانية، واظبنا على السير في مواكب الشهداء والشهيدات، لا أرفع نظري عن عيونهم الشاخصة نحو السماء، النظرة الغامضة والابتسامة الأخيرة. كنا نهتف من جوفنا دون تفكير، نردد ما يقوله «هتيف» الجنازات السريعة، عن يهود خيبر والحوريات المنتظِرات ممن سيأخذن مكان الحوريات المعذبات على الأرض.
من خلف الكفن والإعلام والكوفيات تطل النظرة الأخيرة كما أعرفها، ريهام دوابشة، عيون شاخصة نحو السماء، غرابة النظرة والجنازة البطيئة، المشهد المختلف عما اختبرته من جنازات تشبهنا، تقفز وتزغرد، وجنازات بكماء لا تعبر عنا ولا تنطق باسم قضيتنا، ذابلة وتنتحب.
الجنازة تحترق، العيون نحو مجهول دون رجاء أو أمل. سأهتف وجدتها.. اقتداء «بأرخميدس»، سأجد معنى ما زال مفتوحا أمام من يكترث بذاكرة منسوجة من الحرب والموت: نتيجة ما أجمعت عليه النساء في قطاع غزة رداً على سؤال «متحذلق-ة»، عن الأمنيات والتطلعات: نريد فقط موتاً عادياً! الجواب يعيدني إلى رد اعتبار المتحذلق-ة، فالسؤال ذكي في مكانه الطبيعي.
سؤال خطير؛ وُجه حصرا لعينة عشوائية لبعض النساء في غزة. وللمفارقة، فقد اتفقت المبحوثات في إجاباتهن على سؤال الأمنية- الحلم التي يشتهونها ويعتبرنها غالية وعزيزة، وكانت: موت عادي ومألوف وأليف جدا.. أمنية تطابقت، وهي مفارقة ثانية، في عاديتها وطبيعتها الاستثنائية، مع حلم أخوات لهن في مخيم اليرموك جل أمنياتهن: قارب ينقلهن بأمان إلى الشاطئ الآخر من البحر المتوسط..
الحلم حق مكفول للجميع على الرغم من عدم النص عليه في أي من الشرائع الوضعية أو السماوية. حق ملتصق بالشخص وإرادته يمارسه كما وكيفما يشاء، على مدار اليوم، آناء الليل والنهار، وعلى مدار الشهر والسنة دون رقابة.
حلم الموت العادي والطبيعي في القرن الحادي والعشرين، ينطبق عليه مواصفات الأهداف الذكية “SMART”، محدد، قابل للقياس، واقعي، متفق عليه في الزمن الفلسطيني، بحجم الحال وعلى مقاس الأحوال. منتوج فلسطيني بيد صاحبات التجارب الفذة بالموت، حرقاً وقصفاً وتفجيراً وغرقاً.
لقد استبعدت النساء حلم الإعمار: معقد وشائك الحدود والجدران. وأبعدن حلم رفع الحصار: ترف وكماليات غير مستحبة. وتجاهلن سؤال الحصول على عمل ما، تراجعت أولويته لفقد القطاع صلاحيته للحياة، والكهرباء والماء مطالب نخبوية مستعصية على أولي الأمر.
نعتذر منك هذا الموت يا ريهام، لم يكن بمقدور أحد أن يحقق لك أمنية الموت العادي كما يموت جميع البشر، لم يكن بمقدور أحد ان يأتي لك بسرطان ضنين أو جلطة دموية سريعة وعجزنا عن اهدائك حادث سير مؤسف.
نعتذر، أنه لم يعد بمقدور أحد الثأر لك ولأسرتك، نعتذر عن تركك تترنحين بين الموت والحياة، نعتذر اننا لم نقم بما يلزم؛ وعن رخاوة القبضة، وعن مراسيم موت بطيء وجنازة لا تقفز. نعتذر عن ضياع البوصلة واحتراق النخوة. نعتذر منك المفاهيم التي تاهت وسط أكوام المصطلحات، وعن الجفاف الذي أصاب عروقنا.
نعتذر عن ابتعادنا عنك حدّ الفراق واقترابك من حدّ الاحتراق. عن دخولك امتحان الموت، وعن مسافة بين بين، ما بين الموت السريري والموت الأخير، وعن الرؤية التي استقرت على مساحة بين بين؛ ما بين النص المقدس والهرطقة.
نعتذر عن اختيار المستوطنين بيتك عن طريق القرعة، عن لحظة عنصرية فرغوا فيها مللهم وجنونهم وعنصريتهم، عن حرق أحلامك وأمنياتك بأسرة جميلة. نعتذر منك الغبن الذي لحق بك وأسرتك. عن القهوة المرّة التي تم احتساؤها، وعن انتهاء مراسم العزاء دون معرفة وصيتك الأخيرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية