كثرت العناوين التي تحدثت مؤخراً عن ترتيبات تتعلق بمستقبل الكينونة الفلسطينية، منها ما يتحدث عن تقاسم وظيفي في الضفة الغربية دون غزة ، ومنها من يتحدث عن سلام اقتصادي، وثالث يتعلق بترتيبات لدولة مؤقتة، ورابع يحكي عن معالجات إقليمية ودولية لأزمات غزة المتعددة، وبالتالي تحمل معها مقترحات لفصل غزة وإلى الأبد عن المشروع الوطني الفلسطيني، ومن الطبيعي أن تقف الأقلام الفلسطينية والعربية لتعترض هذه السيناريوهات، وتضع علامة استفهام كبيرة عن شكل ومضمون هذه المقترحات، وقبل كل ذلك تشير إلى حقائق التاريخ والجغرافيا التي تجعل الممكن مستحيلاً، وتعيد ترتيب الأوراق وفق قاعدة أنه لا يصح إلا الصحيح، ولا مجال للخوض في نقاش إلا بعد أن يستنفذ كل مقتضياته.
من يعرف غزة؟، ومن يعرف قيمة غزة؟، ومن يعرف حقيقة التصاق غزة بالمشهد الفلسطيني منذ آلاف السنين؟، إن من يستطيع الإجابة عن هذه التساؤلات، يمكنه بسهولة كبيرة أن يقرر بأنه لا مجال لأية تسوية تتعلق بالكيان الفلسطيني إلا بالاستناد إلى حضور ودور قطاع غزة، على اعتبار أن غزة هذه كانت على الدوام بوابة الفعل الشعبي والوطني، وهي التي انتصرت لفلسطين أكثر من انتصار أحد لها في أكثر من محطة وأكثر من صعيد.
غزة هي رابع مدن العالم من حيث الأقدمية، وهي حامية الساحل الفلسطيني على مر التاريخ، ولما كانت فلسطين مقسمة إدارياً إلى أربعة أقضية كانت غزة قضاءً بحجم ربع الوطن، لتتصدى غزة للغزاة من كل الأصقاع، ويكون لها حضور في مواجهة الغزو الصليبي والتتار وقبلهم الرومان واليونانيين، ثم تستخدم فيها أسلحة تظهر لأول مرة في التاريخ العسكري في سنوات الحرب العالمية الأولى، وبعدها تستقبل غزة لاجئي الوطن عام 1948 بما يفوق ضعفي عدد سكانها، وتشكل بهم أعلى نسبة كثافة في الأرض، وتتصدى غزة للعدوان الصهيوني عام 1956 وتتلقى ضربات قاصمة، بما فيها مجزرة خان يونس الشهيرة، وبعدها تقف غزة بالمرصاد لاحتلال العام 1967، وتحمل الحرب عدد الأيام التي تطلبها وقوعها تحت الاحتلال الصهيوني وهو ستة أيام، بعد أن سقطت باقي المناطق التي احتلت حينها ما بين أربع ساعات وأربعة أيام، ثم تخوض غزة مواجهة مع المستعمر وتعيش وإياه معارك الكر والفر طيلة سنوات السبعينيات، وبعدها كان من الطبيعي أن تنفجر غزة في وجه المحتل في انتفاضة العام 1987، ثم تعود لتنفجر في وجهه مجدداً عام 2000 في انتفاضة الأقصى، ثم تجبره على الانسحاب من أراضيها عام 2005، ثم تواجهه في ثلاثة حروب عنيفة وقاسية ومدمرة أعوام 2008 و2012 و2014، وقبل هذا كله، تقف غزة لتدافع عن هويتها الوطنية بعد نكبة العام 1948 وترفض الانضمام لأية دولة أو الانصهار في أي كيان، ويظل اسم فلسطين يتردد في وثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين التي منحتها السلطات المصرية لسكان غزة في العام 1951، وبعد هذا كله يخرج علينا من يتهاون في غزة وحق غزة وكرامة أهل غزة ودور غزة في التاريخ الوطني والمستقبل الوطني الفلسطيني؟!!.
إن غزة عصية على أن يكون حضورها تبعي في المسيرة الوطنية، غزة خُلقت لكي تكون متبوعاً لا تابعاً، غزة أعطت أكثر من إشارة إلى أنه من يجور عليها أو يحارب أطفالها في قوتهم أو مرضاها في صحتهم أو موظفها في كرامته سترد عليه في الوقت المناسب وبقيمة ما فعله بها، غزة تئن، هذه صحيح، لكنه وجع المارد الذي آن له أن ينهض من كبوته، وأن يعود لصدارة المشهد، ليس بوكالة الدم هذه المرة، وإنما بإبداع يغيظ خصوم غزة وأعداء نجاحها، وبوحدة قادرة على أن تعيد رسم خيوط معادلة الوحدة، على قاعدة أن الوطن بلا غزة هو لا شيء، وأن غزة دون الوطني هي لا شيء كذلك.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد