شجرة ميلاد تُضاء في مكانٍ حاولوا إطفاء الحياة فيه.
في غزة ، لا تأتي الأعياد كما في بقية العالم، تزورها على استحياء، ولا تمرّ خفيفة على أرواح الموجوعين، لا تأتي مُحمّلة بالفرح الخالص. في غزة، الأعياد تُصنَع من الألم، وتُضاء من العتمة، وتُعلَّق على شجرةٍ تعرف جيداً معنى الفقد.
الطائفة المسيحية في غزة لا “تحتفل” بعيد الميلاد بالمعنى التقليدي للكلمة، بل تخلق مشهداً كاملاً من المقاومة الهادئة. الأجراس دُقت لصلاة قُداس ليلة عيد الميلاد بقلوب متألمة، إضاءة شجرة الميلاد هنا ليست زينة، بل إعلان وجود، ليست طقساً دينياً فحسب، بل موقفاً أخلاقياً وإنسانياً في وجه الإبادة.
في هذه المدينة العريقة رغم دمارها الحالي، لا تعرف المناسبات الدينية حدود الطوائف. المسلم يشارك المسيحي فرحه، والمسيحي يحمل وجع المسلم كأنه وجعه. الجيران، والأهل، والأحباب، يلتقون على معنى واحد: أن الفرح، حين يولد في غزة، يولد جماعياً، ويُحمى جماعياً. هنا، لا يُسأل المرء عن دينه، بل عن إنسانيته ومدى ثباته رغم الوجع.
الطقوس الدينية في غزة ليست ترفاً روحياً، بل وسيلة صمود، ومعاندة صريحة للوجع. صلاة تُقام تحت الركام، وشمعة تُشعل في مدينة بلا كهرباء، وشجرة ميلاد تُضاء في مكانٍ حاولوا إطفاء الحياة فيه.
يحتفل المسيحيون بغزة وهم يتذكرون أن الكنيسة التي كانت بيتاً للصلاة، صارت يوماً مأوى للنازحين؛ مسلمين قبل أن يكونوا مسيحيين. يحتفلون وهم يستحضرون مشهد الدم الذي امتزج، حين قُصفت كنيسة القديس برفيريوس، ذلك المكان الذي لم يسأل من لجأ إليه عن اسمه أو صلاته، بل فتح أبوابه للجميع.
قصف كنيسة القديس برفيريوس، في التاسع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لم يكن استهدافاً لحجرٍ ولا لمعلمٍ أثري فحسب، بل كان مجزرة مكتملة الأركان. كنيسة تُعد ثالث أقدم كنيسة في العالم، تحوّلت في لحظة إلى شاهدٍ جديد على الجريمة. هناك، تحت سقف واحد، اختلطت دماء المسلمين والمسيحيين، وسقط الأبرياء معًا، لأن الموت في غزة لا يفرّق، ولأن الاحتلال لا يعترف بالقداسة.
اليوم، بعد عامين من المجزرة والإبادة، تعود الكنائس في البلدة القديمة بمدينة غزة لتقيم شعائر القُدّاس، ولتضيء شجرة عيد الميلاد ولو رمزياً، لا لأن الجراح شُفيت، ولا لأن الألم انتهى، بل لأن الاستسلام لم يكن يوماً خياراً لأهل مدينة غزة العنيدة.
القلوب متعبة، والعيون مملّحة بالدمع، والذكريات أثقل من أن تُحتمل، ومع ذلك… يضيئون الشجرة.
يضيئونها ليقولوا إن الحياة أقوى من القصف، وإن الذاكرة لا تُمحى، وإن غزة، رغم كل ما فُعل بها، ما زالت قادرة على أن تقول: نحن هنا. في غزة، شجرة الميلاد لا تلمع فقط بالأضواء، بل بدموع الصابرين، وبأسماء الشهداء، وبإيمانٍ عميق أن هذه المدينة باقية بأهلها، بمسلميها ومسيحييها، بكنائسها ومساجدها، وبأعيادها التي تحوّلت إلى فعل كرامة.
هكذا يُحتفل بعيد الميلاد في غزة: بوجعٍ لا ينكسر، وبفرحٍ يشبه التحدي، وبرسالة واضحة للعالم كله: غزة لا تموت… وغزة لا تُطفئ نورها.
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية
