اعتدتُ أن أكتب كل عام في ذكرى اليوم العالمي للغة العربية، وهو يومٌ أصدر فيه قسم الإعلام في الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3190 في الثامن عشر من كانون الأول 1973 وينص على اعتبار اللغة العربية لغة عالمية رسمية معتمدة في الأمم المتحدة، وبهذا القرار فإن اللغة العربية نالت رمزياً المرتبة السادسة بين اللغات المعتمدة في الأمم المتحدة!
كيف نحوّل هذه المناسبة إلى إجراءات عملية لإعادة القوة للغتنا العربية؟ هذا السؤال سيظل مطروحاً دون أن يحظى بإجابات شافية للأسف!
كنتُ ولا أزال أعتقد أن مشكلة اللغة العربية لا تكمنُ في بنيتها وتصميمها، بل إنها مشكلة أبنائها وحُماتها ومتحدثيها ممّن فشلوا في حمايتها وتطويرها، على الرغم من وجود سبعة مجامع لُغوية في دول العرب!
دائماً أتذكرُ في هذه المناسبة بعض أبيات من قصيدة الشاعر حافظ إبراهيم المشهورة والتي تحدَّث فيها بلسان اللغة العربية ووصف أسباب ضعفها، وهو يُرجع أسباب ضعف اللغة العربية إلى ضعف أبنائها الذين اتهموها بأنها لغة عقيمة قال:
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَّبابِ وَلَيتَني.... عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي!
وَلَدتُ وَلَمّا لَم أَجِدْ لِعَرائِسي.... رِجالاً وَأَكفاءً وَأَدتُ بَناتي!
أنا البحر في أحشائه الدُّرُّ كامنٌ... فهل ساءلوا الغوَّاص عن صدفاتي؟!
سأظل أتذكر كيف كانت اللغة العربية لغة عالمية في الأندلس لدرجة أن بعض قساوسة المسيحيين طالبوا بضرورة ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية؛ ليتمكن قارئو الكتاب المقدس من فهم معانيه! وفي الوقت نفسه سأظل أتذكر أيضاً الحاخام موشيه بن ميمون، وهو الحاخام الأكبر للتيار الحريدي اليهودي، المتوفى في القاهرة عام 1204، وكان قد ارتحل من الأندلس إلى المغرب ثم القاهرة، حيث عمل طبيباً للقائد صلاح الدين الأيوبي، وكان ضليعاً في اللغة العربية، وقد ألّف كتاباً باللغة العربية، باسم (دلالة الحائرين) وهو من أبرز حاخامات الدين اليهودي، وقد اجتهد في تقريب الدين اليهودي للإسلام، حتى أن بعض الباحثين قالوا عنه: إنه كان يسير في طريق (أسلمة الدين اليهودي) وكان ذلك في عهد سيادة اللغة العربية على لغات العالم، لأن العرب كانوا أقوياء ثقافياً وفكرياً وسياسياً لذلك قويت لغتهم وسادت!
إن القوة التي أقصدها لجعل اللغة العربية لغة عالمية لم تكن فقط القوة الحربية والعسكرية، بل كانت قوة التعليم والتربية، بفضل المعلمين الأفذاذ، والشعراء المبدعين، والناثرين المتفوقين في علوم لغتهم العربية. هؤلاء المبدعون أسسوا جيلاً عربياً قادراً على إبراز جمال اللغة العربية، وعلّموا تلاميذهم آليات السباحة في بحر هذه اللغة، وجعلوا السباحة اللغوية رياضة محبَّبَة للأجيال العربية، لكنَّ كثيرين من أباطرة العرب أنفسهم خشوا على إمبراطورياتهم من سحر لغة الأجداد، فوظفوا لذلك أساليب التلقين في مدارسهم ومعاهدهم، واختاروا من مقررات الدراسة النصوص الصعبة المنفرة، وحظروا الكتب العربية المسلية الجميلة، والأشعار البديعة، والنصوص المشوقة، ليكرّهوا الأبناءَ في لغتهم، وقد حظروا بعض الشعراء العرب المبدعين، ولم يختاروا من أشعارهم سوى الصعب المُنفِّر، وسأظل أذكر كيف أخفى بعضُ العربِ أشعار النقد الجميل من ديوان أبي العلاء المعري، وجعلوا هذا الشاعر شاعر رثاء فقط ينذر الناس بالفناء، ويجعلهم يكتئبون، على وقع أن الأرض كلها قبورُ أمواتٍ فقط، ولم يعلِّموا الأبناء أشعار أبي العلاء في ذم السياسيين الدجالين، ومن أشعاره أنه وهو ينتقد الحكام الدكتاتوريين قال عن الطغاة:
يَسوسونَ الأُمورَ بِغَيرِ عَقلٍ.... فَيَنفُذُ أَمرُهُم وَيُقالُ ساسَة!
فَأُفَّ مِنَ الحَياةِ وَأُفَّ مِنّي.... وَمِن زَمَنٍ رِئاسَتُهُ خَساسَة!
سأظل أتذكر الأديب والكاتب المبدع الذي كشف عن عبقرية هذا الشاعر، وأعاده إلى مائدة القارئين، في صورة الشاعر الفيلسوف العبقري وهو المبدع د. طه حسين، الحاصل على شهادة الدكتوراه في عبقرية أبي العلاء المعري!
كذلك فإن تلاميذ طه حسين وصفوا إبداعه ونظموا القصائد الجميلة في عبقريته، وسأظل أحفظ ما قاله الشاعر، نزار قباني في ذكرى وفاة د. طه حسين عام 1973م.. قال أبياتاً شعرية جميلة لم تُقرَّر في مدارسنا ومعاهدنا:
إرمِ نظارتيكَ ما أنتَ أعمى.... إنما نحن جوقةُ العميانِ!
أيّها الأزهريُّ يا سارقَ النارِ.... ويا كاسراً حدودَ الثواني!
عُدْ إلينا يا سيدي عُدْ إلينا.... وانتشلْنا من قبضةِ الطوفانِ!
أيّها الغاضبُ الكبيرُ تأمَّل.... كيف صار الكُتّاب كالخرفانِ!
إن أقسى الأشياءِ للنفسِ ظلماً.... قلمٌ في يد الجبانِ الجبانِ!
كذلك الحال، فإن الحكيم والشاعر المتنبي كان أحد الغواصين في دُرر اللغة العربية، وهو قد أنتج لنا دُرراً أدبية لا مثيل لها في معظم آداب العالم، فهو القائل في وصف بحيرة طبريا حين زارها ورأى بحرها وبحيرتها العذبة، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وصف بحيرة طبريا وصفاً جميلاً، في لوحة شعرية رائعة، يمزجُ فيها معالمَ الصحراء والإبل بمياه بحيرة طبريا، وهو يُشبِّهُ موج البحيرة المضطرب بفحول الإبل، التي تُخرجُ الزَّبَد من أفواهها، فمياه طبريا في هيجانها خيولٌ بيضاءُ أيضاً، ولكنها بلا ألجمةٍ قال:
والموج مثلُ الفُحولٍ مُزبدةٌ.... تهدرُ فيها وما بها قَطمُ.
والطيرُ فوقَ الحُبابِ تحسبُها.... فرسانَ بُلقٍ تَخونُها اللُجُمُ.
كأنها والرياحُ تضربُها.... جيشا وَغَى هازمٌ ومُنهزم.
هذه الأبيات الشعرية الجميلة ليست متاحة في مقررات أبنائنا المدرسية، وكذلك فإن قصيدته الجميلة في وصف غابة جميلة رآها في إيران، وكيف أن هذه الغابة الجميلة المسماة (شِعب بوَّان) جعلت حصانه يعشقها ويفضلها على ساحة الحرب، قال على لسان حصانه الذي افتتن بالغابة أيضاً فسأل المتنبي سؤالاً استنكارياً:
يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني.... أَعَنْ هَذا يُسارُ إِلى الطِعانِ؟!
دعوني أقتطف قولين للأديب الكبير، جبران خليل جبران، القول الأول عن الفرق بين الشاعر المبدع والشاعر المُقلِّد قال: «الشاعر أبو اللغة وأمّها تسير حيثما يسير، وتربض أينما يربض، وإذا ما قضى جلستْ على قبره باكية منتحبة، حتى يمر بها شاعرٌ آخر ويأخذ بيدها.
وإذا كان الشاعر أباً للغة وأمَّها، فالمقلد ناسج أكفانها وحفار قبرها.
أعني بالشاعر كلَّ مخترع، كبيراً كان أو صغيراً، وكلَّ من يقف متهيباً أمام الأيام والليالي، فيلسوفاً كان أو ناطوراً للكروم.
أما المقلد، فهو الذي لا يكتشف شيئاً ولا يخلق أمراً، بل يستمد حياته النفسية من معاصريه، أعني بالشاعر: الملّاح الذي يرفع للسفينة ذات الشراعين شراعاً ثالثاً، والبنَّاء الذي يبني بيتاً ذا بابين ونافذتين بين بيوت كلها ذات باب واحد ونافذة واحدة، والصبَّاغ الذي يُخرج الألوانَ التي لم يمزجها أحد قبله، فيستخرج لوناً جديداً، وهكذا يضيف كل من الملاح والبناء والصباغ شراعاً جديداً إلى سفينة اللغة، ونافذة إلى بيت اللغة، ولوناً إلى ثوب اللغة! الشعر يا قوم روح مقدسة تحيي القلب، مشربها العواطف، وإن جاء الشعر على غير هذه الصور فهو تقليد كاذب».
أما نص الفيلسوف والأديب جبران الثاني عن اللغة قال: «لكم من اللغة الألفاظُ وترتيبُها، ولي منها ما تُومئ إليه الألفاظُ ولا تلمَسُهُ، لكُم منها جثَثٌ محنَّطةٌ باردةٌ جامدةٌ، ولي منها الرُّوح التي تحلُّ فيها، لكم منها قواعِدُها الحاكمةُ وقوانينُها اليابسةُ، ولي منها رنَّاتُها ونبراتُها، وما تبثُّهُ من الأشجان في العواطف، لكم منها القواميسُ والمعاجمُ والمطوَّلات، لكم منها العَروضُ والتفاعيلُ والقوافي وما يُحشر فيها من جائز وغير جائز، ولي منها جدولٌ يعزف لحنَ الجداول، لكم منها البديعُ والمجازُ والبيان، ولي منها لهفةُ المقهور، ودمعة المُشتاق، لكم منها أصفادُ سيبويه، وأبي الأسود، وابن عقيل، ولي منها أغنياتُ الأم لطفلها، والمحب لمعشوقته، والناسك لربِّه،ِ لكم لغتُكم تحفظونها وتعلقون أشلاءها في متاحفكم، ولي نارٌ أحرقُ فيها كل حرفٍ مشلول وجملةٍ مُقعدة، لكم لغتكم عجوزاً كسيحاً ولي لغتي صبية تنسج أحلام شبابها، الحقُّ: إن لغتَكم سراجٌ جفَّ زيتُه، وخبا ضوؤُه، كأعشاب نعوش الموتى، لا تُزهر، ولا تُثمر. لا تحسِبوا أنني أشكو لغَتَكم، لأبَرِّرَ لغتي لا، إن الحياةَ، لا تحاولُ تبرئةَ نفسِها أمام الموت!»
نعم إن معظم مقررات أبنائنا الدراسية الراهنة لم تحسن اختيار مفاتن لغتنا العربية، بل إن هذه المقررات يمكن وصفُها بأنها من مُنفَّرات من لغتنا العربية، هذه المُنفِّرات جعلتْ أبناءنا يهربون منها إلى اللغات الأجنبية، ومن يعجز عن إتقان لغة أجنبية فإنه يستخدم اللغة العامية بدلاً من الفصحى، وهذا أدَّى إلى مسخ لغتنا العربية!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد