هل حسم السابع من أكتوبر الجدل حول برنامج حركة حماس وجدارته في التحرير ونجاعته في إدارة الشعوب، أم لا زال الجدل قائماً؟ بالعادة اثر الهزات التاريخية تُجري الشعوب مراجعاتها مستفيدة من تجاربها، وبالعادة أيضاً يتم الأمر وفق حكمة قديمة تقول «إنك لن تتجاوز إلا ما يتحقق» هذا عندما تفشل العمليات الإدراكية في إجراء حساباتها النظرية وتكون بحاجة إلى تجريب النظريات لتثبت نجاعتها أو فشلها بما يتطلبه من ثمن.

هل قدمت حماس ما يحسم جدل البرنامج بعد تحققه وتوفر كل الظروف الملائمة له، بعد أن كانت تتهم السلطة في قطاع غزة بأنها عائق يحول دون إعطاء الحركة فرصة تحرير البلاد، فطردت السلطة لتصبح كل الإمكانيات البشرية والمادية والجغرافية فوق الأرض وتحتها لأول مرة تحت تصرف الحركة لتنفذ برنامجها دون معيقات وبكل الإمكانيات، فما الذي حدث؟

ما حدث اختصر جدلاً سياسياً وفكرياً كان يمكن أن يستمر لسنوات وربما لعقود، فقد تحقق نموذج برنامج يغني عن نقاش آلاف المثقفين وآلاف الكتب ليقنع الإسلاميين بخطورة ربط الدين بالسياسة. فكل ما كان يمكن أن يُقال لن يصلح كوسيلة إيضاح كالتي قدمتها حركة حماس عندما قررت القيام بفعل عسكري بناء على نصوص دينية تم تأصيلها في مؤتمر عقدته الحركة في غزة، فانتهى بهذه النتيجة ليحسم جدلاً تاريخياً عاد ليشغل المنطقة العربية في سنواتها الاخيرة، كانت سنتان من الدم تكفيان للخروج بخلاصات تاريخية.

الذي حدث أن برنامج حماس بمغامرة ما وذهابه لنزال اسرائيل في ملعبها العسكري وعدم القدرة على القياس، وفر مسوغات لوحش الفاشية الإسرائيلية لتقتل سبعين ألفاً من سكان القطاع، وترك عشرات الآلاف من المعاقين والمبتورين، الذي حدث أنه تم هدم قطاع غزة بمدنه ومخيماته وقراه ليجد شعب القطاع نفسه نازحاً بين الخيام الغارقة مع كل شتاء وجوعى يعيشون على المساعدات، والذي حدث أن إسرائيل تعود لتحتل الجزء الأكبر من أراضي القطاع بعد أن تسلمته حماس خالياً من الاحتلال، والذي حدث أن عيون إسرائيل تفتحت بفعل السابع من أكتوبر على الضفة الغربية أكثر كما قال رئيس الإدارة المدنية في الضفة هشام إبراهيم «بأن إسرائيل استخلصت الدروس بعد 7 أكتوبر، فأعادت تشكيل البيئة الأمنية في الضفة بفضل العمليات الهجومية، وأن الضفة تعيش اليوم واقعاً أمنياً أفضل»، والذي حدث بدلاً من أن ينتهي مشروعها بالتحرير انتهى بالوصاية.

بالعودة للجغرافيا التي تحقق فيها برنامج الحركة الإسلامية وفكرة اشتغال الإسلاميين في السياسة، فقد قيل الكثير حول عبثية هذا الربط، فالدين مجموعة قيم ومبادئ ثابتة، أما السياسة فهي مصالح متغيرة. وما بين هذا وذاك يصبح الأمر حينها إما تغييراً بالدين ليتلاءم مع السياسة، أو تثبيتاً للسياسة وتخشيبها لتتلاءم مع الدين. وهذا ما حدث بغزة دون قياس موازين القوة وحساباتها، وهي أسس الصراع، فإذا كانت الحركة التي قامت بالطوفان لا تعرف تبعات العمل، فتلك كارثة تعكس الجهل بقراءة ممكنات السلاح والسياسة التي لا تصلح لإدارة شعوب خوفاً من المغامرة بهاـ وإذا كانت تعرف وفعلت ذلك فمصيبة الغزيين أكبر.

 في تحقق برنامج حماس ما أطلق وحوش جيش إسرائيل ليمارس الإبادة ضد شعبنا، في تحقق برنامج حماس ما جعل شعبنا متسولاً فقد كرامته. أما التفاصيل المنقولة يومياً من غزة التي تحولت إلى خرابة كبيرة فتلك وحدها تكفي لحسم أي جدل إذا كان  قائماً على العقل، وهو نادر في مجتمعات عربية، التي تصبح فيها الأحزاب الحاكمة بديلاً عن الدولة وهي من يوفر سبل الحياة والوظيفة، وتحقق مصالح الفرد ليصبح الدفاع عن الحزب في لحظة ما بديلاً عن الدفاع عن الوطن، حتى لو أدى ذلك لتدمير المجتمع ومصالحه، هذا ما حدث في غزة، والنقاش الذي لا زال مستمراً باحثاً عن مسوغات إقناع المواطن بضرورة تدمير البلاد، وأهمية قتل الأبناء واختبار هدم البيت، يقدم نموذجاً فادحاً.

الفلسطينيون في غزة والخارجون من الصدمة يحاولون فهم حجم ما حدث ولماذا حدث، وإن كان يجب أن يشعلوا الأضواء الحمر لحظة عقد مؤتمر «وعد الآخرة» بدل أن يتناولوه بالتندّر. كان يجب أخذ الأمر على محمل الخطر من هذا الربط، حينها كتبت مقالاً هنا في «الأيام» يحذر من خطورة ربط الدين بالسياسة لهذا الحد، وفزعاً من هذا المنطق الشعبوي الذي ساد في المؤتمر إذا ما استمر بهذه الوتيرة سيستدعي هزيمةً ليس بمتسع الفلسطيني تحملها، ويستدرج كارثةً غزة بغنى عنها، كان المؤتمر يستند لدروشات حسابية من أكاديمي أمضى عمره يحسب الأرقام والحروف، فيما كانت الحرب تتطلب حساب السلاح والذخيرة... فكان ما كان.

رغم فداحة ما حدث، لكن ينبغي أن يساهم ذلك بإنهاء جدل أحدث انقساماً بين الفلسطينيين منذ تشكيل حركة حماس واعتذارها المبكر عن الدخول لمنظمة لا تحمل برنامجها التحريري القائم على الدين، فقد انتهى الأمر وحماس بحاجة لأن تصبح حزباً سياسياً عادياً، بعد ما أخذت ما يكفي من الوقت والجهد والإمكانيات لتجرب ذاتها، قبل أن تعود إلينا مكسورة، ما يتطلب الأخذ بيدها كجزء من مجتمع من الضروري أن يعيد صياغة نفسه بشكل منطقي وطبيعي، إلا إذا كانت تصر كما البعض منها بأن أهم ما حدث للقضية هو السابع من أكتوبر، حينها ستحكم على النقاش العام بالطلاق، وحينها أيضاً يبدو الحديث عن الوحدة والاتفاق مسائل منفصلة عن واقعٍ جزءٌ منه يبكي نكبته والآخر معجب بها ويبحث عن مسوغاتها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد