من الواضح أن هناك أزمات في العالم توجد من اجل أن تستمر، ولا يراد لها أن تنتهي. أزمات يتم خلقها من أجل أن تبقى في المشهد الدولي، وتواصل تفاعلها في رحم المناطق التي وجدت فيها، وتخلق بالتالي حالة من الفوضى المستمرة وعدم الاستقرار الدائم. معظم هذه الأزمات تتم بعفوبة مقصودة لكنها تنتظم وفق معادلات جديدة لم تكن بالحسبان حين تم تفجير الأزمة. وهي بالعادة تعبر عن تطلعات محدودة للفاعلين المحليين لكنها سرعان ما تكشف عن وجهها متعدد المصالح والأطراف والأقطاب. وحتى في اللحظات التي يحاول اللاعبون المحليون فيها أن ينهوا اللعبة، فإنهم قد لا يكتشفون أنهم ليسوا أصحاب القرار فيها، وأن ثمة قوى خارجية كبري هي من تقرر.
يحفل المشهد الدولي بمثل تلك الأزمات التي مع الوقت يتم نسيانها ويصير الصراع فيها من المشاهد اليومية في العلاقات الدولية. بمعني أنها تتحول إلى شيء عادي ومألوف ولا تعود مشكلة كبيرة تهدد الكون او المصالح كما يمكن للمتابع في بداية أيام الأزمة أن يعتقد. وبكلمة أخرى فإنه يتم تدجين الأزمة ولا تعود أزمة. كيف لا تعود الأزمة؟ بالطبع هي لا تعود أزمة بالنسبة للقوى الكبرى لأنها "حارسة" الاستقرار والأمن الدوليين، وهي من يقرر ما هو الأزمة وما هو غير الأزمة، وما هو تهديد للاستقرار والأمن في العالم وما لا يشكل تهديداً. وفي اللحظة التي تقرر هي غير ذلك، على افتراض أن هذه الأزمات كانت تشكل قبل ذلك تهديداً ما، فإن الفاعلين لا يعودون يقدرون على تقدير الموقف بالشكل الصحيح. فإذا ما قرروا وقف الأزمة فإنهم لا يقدرون، أو أنه يتم التأثير عليهم بطريقة لا يعرفون معها تقدير مصلحتهم الذاتية والحزبية والطائفية ربما بشكل أفضل. بل أبعد من ذلك يتم تطوير تبني نماذج ومفاهيم لتلك المصلحة تتوافق ليس مع حقيقة مصالحهم وأهدافهم التي افتعلوا الأزمة من أجلها ولكن تتوفق أكثر مع ما تريد القوى الكبرى وتسعى إليه. والحروب بالوكالة مثلاً تصير دفاعاً مقدساً عن مصالح حيوية، لو تبصروا قليلاً لما وجدوا لهم فيه ناقة أو بعير.
وبطريقة جديدة يصار إلى صياغة علاقات الهيمنة ولكن دون استخدام مصطلح الهيمنة أو حتى الإشارة له. بل بالعكس تصبح أشكال الهيمنة الجديدة هي هيمنة مرغوبة ومطلوبة من قبل الأطراف الفرعية في العلاقات الدولية مثل تلك التي تكون أطرافاً في الأزمات المقصودة. وهي من تسعى إلى جلبها. بطريقتين متعارضتين يحدث الأمر، ولكن بسلاسة ودون أن يثير وعياً مضاداً لدى الأطراف المنهمكة في الأزمة. فمن جهة قد يستخدم خطاب التحرير من قبل جهة ما سواء التحرر من الطاغية أو التحرر من التطرف أو التحرر من الطائفية أو التحرر من القوى الاستعمارية والإمبريالية، ومن جهة ثانية يعاد نسج علاقات ماورائية ولكن فاعلة يتم خلالها استجلاب المال والسلاح والأفكار واستخدام النفوذ في المؤسسات الدولية عبر ما يعرف بالتدخل الإنساني وهذا قضية أخرى ولكن لصيقة بهذا النقاش.
حتى مفهوم مثل مفهوم الامبريالية يتوسع وفق هذا النقاش ليشمل دولاً أخرى حيث لا يقتصر النقاش على القوى الامبريالية الكلاسيكية المعهودة التي اشبعها الخطاب اليساري قدحاً، وهي تستحقه على أية حال. بل إن مفهوم التدخل في شؤون الدول والسيطرة عليها بغية استغلال مصادرها ومواردها وربما أزماتها في خلق موازين قوى ومصالح ومواقع نفوذ هو جوهر مفهوم الإمبريالية، بالطبع مع تحييد الجانب الاقتصادي قليلاً. رغم أن التدخلات الآن لابد من أن تكتشف جوهراً اقتصادياً خلفها وإن لم يكن ظاهراً على السطح.
هل الولايات المتحدة وحدها الدولة الإمبريالية في العالم؟ هل فقط دول أوروبا الغربية وحدها قد يمكن وصفها بالإمبرياليات الصغيرة بجوار الإمبريالية الهايبر الذي تمثلها الولايات المتحدة. ألا يعتبر كل تدخل سافر في شؤون الدول حتى لو كان من قبل دولة بحجم حبة الحمص تدخلاً إمبرياليا! ألا يجب توسيع هذا الفهم ليشمل التدخلات السافرة لدول أخرى كثيرة في الشأن العربي تمتد من التدخل التركي إلى التدخل الإيراني إلى التدخل الروسي بالطبع بجانب التدخلات السافرة لأمريكيا والدول الغربية. هل من يهمس بان ثمة تدخلات من دول عربية صغرى باتت للأسف تقوم بالدور التاريخي للدول العربية التاريخية التي كانت في لحظات معينة عواصم الكون وكانت مهد الحضارات. هذه قضية أخرى حول انتقال المركز وهي ظاهرة مألوفة في تطور تاريخ العلاقات الدولية، لكنها في الحالة العربية تتم بطريقة فجة وغير منطقية.
عموماً ما أقصده من وراء هذا النقاش هو التنويه إلى أن هناك من يفتعل أزمة ولا يريد لها أن تنتهي حتى لو رغب جميع أطراف الأزمة بحلها. تخيلوا الأزمة السورية الآن هل يمكن تخيل لحظة مرتقبة يمكن فيها أن تعود الأمور إلى طبيعتها. وأن تعود الأمور إلى طبيعتها هو أن تنتهي الأزمة ويرحل الأسد وتفكك الميليشات العنيفة التي دمرت البلاد بل ويتم محاكمة كل مجرمي الحرب، ويصار إلى إجراء انتخابات حرة وديمقراطية تعود خلالها ملكية الدولة للشعب. هل يمكن تعداد كم لاعب في الأزمة السورية؟! عشرات بالطبع وبمستويات تدخل مختلفة، والشعب السوري هو الوحيد الذي لم يعد لاعباً فيها.
الأمر ينسحب على الأزمة العراقية حيث تم تدمير العراق وتفتيت الدولة واستطاع ستة آلاف مقاتل دحر وحدات الجيش العراقي في الموصل المكونة من خمسين الف جندي وإنشاء ما يطلقون عليه الدولة الإسلامية. وتمر السنوات ويبدو أن أحداً في العالم لا يستطيع أن يقضى عليها وهي لا تملك طائرات ولا صواريخ ولا أسلحة نووية. كما تم استنهاض كل الأزمات الطائفية من اجل تعزيز حالة التمزق سواء في سوريا أو في العراق ومن قبل جميع الأطراف.
الأمثلة كثيرة واستحضارها مؤلم لكن من المهم أن نفهم أن الشعوب وحدها من تستطيع أن تقرر إذا كانت الأزمة ستنتهي أم لا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية