أن تطرأ غزة على سمعك فهذا يعني أنك بانتظار الحديث عن الأزمات والويلات والمصائب التي حطت على رؤوس أهل هذا القطاع منذ وقت بعيد. وأن تبحث عن غزة في مواقع التواصل الاجتماعي فهذا يعني أنك أيضاً أمام تقارير حول الحصار وإغلاق المعابر والحروب التي قضت على الآلاف من سكان هذه البقعة الضيقة من العالم. وأن تفكر بمشاهدة أي فعالية ثقافية أو فنية في/ عن قطاع غزة؛ فهذا يعني أنك ستعيش حالة الخوف من صور الدمار والموت. لكن العارف بغزة هو من يوقن بأن علي هذا المكان ما يستحق الحياة، رغم العتمة التي تحاصره من كل جانب، وبأن أهلها يؤمنون بما قاله غسان كنفاني من أن لكل فرد في هذه المدينة دور فعليه أن يقوم بفعله/ فِعل حياة.


إن العارفين بغزة وهم قلة، يدركون بأن غزة تعشق البحر وتحب الموسيقى وتغني كل صباح على أنغام فيروز حتى إذا جن الليل ضجت المقاهي والكافيهات والعربات والبيوت بصوت أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم ونجاة الصغيرة.


غزة التي لا يعرفها إلا أهلها، تؤمن بأن الحياة جهاد وتضحية، لذلك فهي تنتج في شوارعها وحواريها وأزقتها الضيقة مشاريع مبدعين يحملون في قلوبهم أيقونة الحياة وأشرعة الحرية. غزة التي أنتجت الفنانين والمسرحيين والأدباء والأكاديميين وغيرهم. غزة محمد عساف ومحمد الديري والتخت الشرقي وأحمد عمر شاهين وغريب عسقلاني وعبد الله تايه وعلي أبو ياسين ونبيل الخطيب ورائد عيسى ومحمد الحواجري، غزة كل هذا وكل ما يصعب استحضاره الآن.


غزة مؤخراً أخذت بأيدينا نحو متعة الفن والموسيقى حد الاندهاش، حين وصلتنا دعوات لحضور مهرجان البحر والحرية الذي يقيمه معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى بمركز سعيد المسحال الثقافي. فقد حضرت جانباً من اللقاء برفقة صديقي الصحفي فادي الحسني ونسينا مواعدينا الأخرى لشدة انسجامنا غير المسبوق. فالأغاني والموسيقى والأداء الفني للأطفال يفوق المتوقع، لدرجة أن صار كل واحد فينا يعلق بكلمة أو جملة في كل مقطع موسيقي خلال العرض الثاني لذلك المهرجان، ووقتها فقط قررت وصديقي أن نكتب لغزة التي لا يعرفها كثير من الناس.


فغزة تحب الحياة أيضاً، بل تتوق لأن تحتضن ما تبقى من أمل لإعادة الروح لمن بترت أيديهم وأرجلهم، ولمن فقدوا أهلهم أو بيوتهم. غزة تحلم بالحرية والبحر الذي سيأتي بالنوارس مع الميناء الذي صار حلماً لكل مواطن يعيش أحلام الخروج من القفص.


غزة التي يحلم أهلها بالتحليق في الفضاء عالياً كأي بلاد، فلا هي بميناء بري أو بحري أو مطار كأي دولة أخرى، إنما سجن يضيق بأهله، يحاصرهم ويخنق من تبقى من أمل في روح سكان هذه الأرض. ورغم كل ذلك يسعى الغزيون لأن يصنعوا الحياة من خلال العروض الفنية والمسرحية والأدبية.


هنا غزة، التي تستحق الحياة لأن كل بذرة فيها تعشق هذه الحياة، فتنبت رغم الماء الشحيح، وتكبر رغم حصار الهواء والغازات السامة. غزة برجالها ونسائها يحبون الحياة أيضاً لأنهم لا يتوقفون عن الدفع بأبنائهم لممارسة الإبداع في شتى المجالات. ولعل أي زائر غريب لهذه الغزة سيدرك كل ذلك مع أول وهلة؛ فغزة بكنائسها ومساجدها تعيش حالة انسجام الأصالة والإبداع. وغزة الموت والحياة تعيش حالة/ فعل الحياة الأزلي. وغزة المرض والصحة تمنحنا كل يوم بريق أمل من أنها لن تبقى على هذا الحال، وستصير يوماً ما تريد، لأن أهلها –باختصار- يعرفون الطريق جيداً نحو الحرية. فسلام على غزة حين تشرق الشمس من مهدها وحين تغيب في حضن البحر. سلام عليها لأنها تمنحنا الحب كل دقيقة وتمنحنا الحياة كل لحظة. سلام على غزة السلام.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد