ربما من الصعب الحديث عن «عقيدة أمنية» «تخص أية ثورة كفاح مسلح، بما فيها الثورة الفلسطينية. طبيعة الثورة المسلحة، انها تتواءم مع الأوضاع المختلفة وتضع الخطط الأكثر مرونة، لديها القدرة على التعاطي مع المستجدات التي تفرض عليها من دون قيود تكبل حركتها، بالضبط كما الفرق بين حرب العصابات وحرب الشوارع من جهة، والحرب التقليدية لدى الجيوش النظامية، الأمر الذي يجعل من مقولة «عقيدة أمنية» لدى ثورات الكفاح المسلح، مجرد فرضية غير واقعية.
ولكن، بعد مطالعتي لمقالة الكاتبة عميرة هس في هآرتس والمعنونة: «تكلفة حماية المستوطنين .. السبب الحقيقي لانفصال شارون عن غزة »، وجدت انه بالإمكان صياغة «عقيدة أمنية» للثورة الفلسطينية المسلحة، جوهرها مقولة واحدة لا غير: «العمل بكافة الوسائل أن نجعل الاحتلال الإسرائيلي مكلفاً بشرياً ومادياً هو السبيل الوحيد لإنهاء الاحتلال»، والأمر هنا ليس بحاجة إلى تفاصيل لهذه العقيدة، بل العمل وبمرونة عالية لوضع هذه المقولة - ليس إلا - موضع التنفيذ الفاعل والجدي وتضمين «كافة الوسائل» كان بالغ الأهمية باعتبار أن اختلال ميزان القوى، ليس بفعل القوة العسكرية البحتة، بل في سائر المجالات الاخرى، كالنظافة والاقتصاد والمجتمع .. الخ.
يشير المقال المذكور الى ان كلفة حماية المستوطنين في مستوطنات القطاع، كانت اكثر بكثير مما تتحمله ميزانية الدولة العبرية، كان ذلك سبباً في اصرار شارون على الانسحاب من القطاع، من دون ان يدري - ربما - ان تفسر حركة حماس إخلاء المستوطنات كانتصار للكفاح المسلح، ولا معرفته بأن ذلك سيؤدي - ربما - الى الانقسام، كما حدث فعلا بعد الإخلاء.
ولكن .. ماذا عن العقيدة الأمنية للاحتلال الإسرائيلي، هنا لا بد من ملاحظة نرى انها بالغة الأهمية، فلأول مرة يتم الإعلان علناً عن هذه العقيدة بوثيقة رسمية، غير مسربة وغير خاضعة للتأويل والتحليل عن بعد، فبعد تسعة أشهر من تولي «غادي ايزنكوت» رئاسة هيئة الأركان في إسرائيل، أقدم على هذه الخطوة غير المسبوقة منذ قيام الدولة العبرية، في ٣٣ صفحة من خمسة فصول، قال عنها بعض المحللين الإسرائيليين، أنها ليست عقيدة أمنية جديدة بقدر ما هي رد على المستجدات المتتالية في المنطقة، لكنها بمثابة عقيدة أمنية كونها تتعامل مع المتغيرات المحيطة بالدولة العبرية، وتشكل تراجعاً عن العقائد الامنية السابقة، فهذه الوثيقة - العقيدة، لا تشمل «العدو الايراني» إلا من خلال أدواته: حزب الله حماس، وليس البرنامج النووي الإيراني، كما ترى في الفصائل الإرهابية المنتشرة بالقرب من حدود الدولة العبرية، تهديداً مباشراً.
ما يجعل من هذه الوثيقة «عقيدة أمنية» هي أنها تخلت عن أحد أهم ما تداولته المؤسسة الأمنية الإسرائيلية حول «خطة لوكر» والقاضية باعتماد تسريح ١٠٠ الف جندي من الاحتياط، خلال السنوات المقبلة، اذ ان الوثيقة رفضت هذه الخطة واستعاضت عنها «بخطة جدعون» التي ترتكز في الظروف الراهنة على ضرورة عدم التخلي عن جنود الاحتياط، كون مساحة الحرب القادمة قد تكون شاملة لكافة حدود الدولة العبرية.
الجديد في العقيدة الأمنية الجديدة، انها ترتكز على مرونة التعاطي مع المستجدات الأمنية في أوقات الحروب، ولكل منطقة أمنية وضع خططها الخاصة ومراجعتها في إطار الخطة الشاملة.
وليس بعيداً عن السياسة، تشمل الوثيقة ضرورة أن يقوم المستوى السياسي بتعزيز مكانة إسرائيل في الحلبة الإقليمية «وتقوية اتفاقيات السلام» والتعاون مع جهات معتدلة في المنطقة، إضافة الى الجانب العسكري الذي يتمثل هنا في الجانب الاستخباري والى القدرات التكنولوجية.
ولا شك أن هذه الوثيقة استندت الى تجارب الجيش الاسرائيلي في حروبه ضد الشعبين، اللبناني والفلسطيني، والمثير في هذا السياق، مفهوم النصر في الحرب وفقاً لهذه الوثيقة، ذلك ان هذا المفهوم تعرض للجدل في مختلف الأوساط الإسرائيلية بعد حرب على لبنان وثلاث حروب على قطاع غزة، بين من قال ان إسرائيل انتصرت في هذه الحروب، وبين من قال ان الجيش الإسرائيلي لم يحقق أهداف حروبه وبالتالي، فإنه لم ينتصر في هذه الحروب، وللتخلص من مثل هذا التعارض والتناقض، وصفت الوثيقة مفهوماً جديداً للانتصار والذي يتمثل في «تحقيق الغايات السياسية المقررة للمعركة، بشكل يقود الى تحسين الوضع الامني بعد المواجهة» ووفقاً لهذا المفهوم، فإن إسرائيل قد ربحت كل حروبها ضد لبنان وفلسطين، مع أن مصطلح السياسات المقررة يبقى غامضاً بالنسبة للرأي العام، إلا أن هدف الانتصار، ليس القضاء على العدو، وهو ما حدث فعلاً في هذه الحروب التي خاضها جيش الاحتلال الإسرائيلي، لم تنهر المقاومة الفلسطينية ولا انهارت المقاومة اللبنانية، لكن الاحتلال ظل يشكل تهديداً حقيقياً للشعبين الفلسطيني واللبناني، ولعل في هذا المفهوم، ما يوفر عنصر «الانتصار» للجيش الإسرائيلي في حروبه العدوانية القادمة!!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية