كلٌّ من زاويته، وكلٌّ حسب وجهة نظره ــ المسبقة غالباً ــ سيفسّر هذا الحدث السوري الكبير/ الزلزال، بطريقة إمّا مختلفة عن وجهة نظر آخرين، أو متناقضة معها، وفي أحسن الأحوال، نكون أمام تقاطعات قد تستعيض عن الاختلاف والتناقض بالإشارة إلى مثل هذه التقاطعات لإخفاء المواقف والتستّر عليها.
كلّ هذا مفهوم وطبيعي، ويأتي في السياق المنطقي للواقع. وحتى يكون لمحاولة القراءة هذه ــ أي قراءة انعكاس الحدث السوري على فلسطين ــ منطقية وطبيعية، أيضاً، فإنّ ثمّة حقائق ووقائع قد تمّت بالفعل، ولا يمكن لأحدٍ إنكارها بصرف النظر عن زاوية وجهة النظر التي يتبنّاها.
أولى هذه الحقائق والوقائع هي انتقال حركة حماس سواء اعتبرنا هذا الانتقال، صحيحاً أم خاطئاً، مفاجئاً أو متوقّعاً من معسكر سابق، وهو «محور المقاومة» إلى المحور الجديد، أيّ إلى «محور موالاة النظام الجديد» في سورية، بصرف النظر عن مدى علانية الإعراب عن ذلك، حيث يصطفّ الموقف التركي والقطري، وبصرف النظر عمّا إذا كان النظام الجديد في سورية، والمتحالف مع النظامين التركي والقطري، والمتحالفين بدورهما مع الرؤية، ومع الإستراتيجية الأميركية سعيدة أم لا، حتى نؤجّل مؤقّتاً الحديث عن الاصطفاف الصهيوني في هذا الإطار.
نحن هنا أمام واقعة، وليس أمام توقّع من أيّ نوعٍ كان. والاصطفاف الجديد معلن وعلى رؤوس الأشهاد، وصرّح به خالد مشعل جهاراً نهاراً، على الهواء مباشرة.
لم يصدر عن «حماس» ما يشي ــ حتى الآن ــ بأنّ لدى قيادات الحركة ما يتناقض أو يختلف، أو يوحي بأنّه كذلك سوى أنّ هذه القيادات، وجُلّها في الخارج اختفت تقريباً عن ساحة الإعلام بهذا الشأن، وأصبحت مقلّة للغاية في التفاعل معه.
وهذا الإيحاء، إن كان له دلالة ما، فهي دلالة تصلح لأن يتمّ تفسيرها بالموافقة على الاصطفاف الجديد، مع تحفّظ معيّن بإبداء «الحماسة» المطلوبة حيالها، ومن المستبعد حسب سياق المسألة أن يكون مثل هذا التحفّظ ناجما عن اختلاف أو عن اعتراض مبدئي عليه.
هناك من يعتقد ــ وأنا منهم ــ أنّ «حماس»، بدعمٍ تركي وقطري ستخرج من هذه الحرب بخسائر سياسية أقلّ من باقي الفصائل التي قاتلت إلى جانبها في غزّة وغير غزّة.
وهناك من يعتقد ــ وأنا منهم هنا، أيضاً ــ أنّ سبباً جوهرياً جديداً قد أُضيف لعقد «الصفقة» في القطاع، وبأسرع وقت ممكن لأن الولايات المتحدة الأميركية ليس لديها مشكلة «للتعايش» مع درجةٍ معيّنة من الوجود «الحمساوي» في القطاع بعد إتمام الصفقة، وقد تكون الترتيبات التي تعدّها أميركا لمرحلة ما بعد الصفقة تتطلّب مثل هذا التعايش بعد أن فقدت الحركة «قدرتها» على تشكيل أيّ تهديد جديد من مستوى ووزن ما كانت عليه الأمور قبل مرحلة «طوفان الأقصى»، وما بعده، وهذا كلّه متغيّر كبير نحو الإسراع بالصفقة.
كما أنّ دولة الاحتلال التي فشلت بالمراهنة على إيجاد بديلٍ عن «حماس» في صيغ العشائر والتجّار، وروابط المدن في نسختها الغزّاوية، لم تعد قادرة على فرض شيءٍ جدّي من دون الاحتلال العسكري المباشر، وهي لن تقوى على هذا الخيار في ظلّ «الرغبة» الجامحة للحلّ السياسي عند كلّ الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، بعد كلّ هذه الجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال، وبعد كلّ هذا الدمار الذي أحدثته آلتها العسكرية في القطاع، دون أن تحقّق أهدافها المعلنة كاملة.
وحتى إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش فإنّهما لم يعودا قادرين على التأثير الكبير في تركيبة الائتلاف الفاشي إذا ما قرّر نتنياهو عقد الصفقة، وإذا ما أصرّت الإدارة الأميركية المغادرة والقادمة عليها.
كما أنّ ربّح الحرب المجّانية من قبل دولة الاحتلال في سورية، وهي الحرب التي ربحتها من دون أن تخوضها قد «أمّن» لنتنياهو ما يكفي من صورة النصر التي ظلّ يبحث عنها، وستكون الصفقة في مثل هذه الحالة هي أقرب إلى تعزيز هذه الصورة أمام المجتمع الإسرائيلي.
ويرى الكثير من القيادات الإسرائيلية الآن أنّ صورة «حماس» في القطاع تستعيض عن ما ألحق «الطوفان» بدولة الاحتلال من مهانة. هذه الصورة ستبدو وكأنّها بقايا فصيل من بين الركام وأطلال حياة كانت في القطاع، وهي صورة تكفي للمجتمع الإسرائيلي في هذه المرحلة «للتسامح» حيال استكمال الحرب حتى «النصر المطلق»، مع أنّ الحقيقة هي أنّ الانتصار الحقيقي الوحيد الذي تحقّق هو ربح الحرب في سورية، وهي حرب مجّانية، ولم تخضها دولة الاحتلال، ولم يواجهها أحد حتى ولو بطلقة رصاص واحدة، في حين أنّها وبالرغم من كلّ حروب القتل والإبادة والتطهير العرقي والقتل المتعمّد للمدنيين وتدمير كلّ مقوّمات حياتهم قد هُزمت عندما اضطرّت أن تقاتل، وفشلت في تحقيق أهدافها العسكرية والأمنية فشلاً ذريعاً، وعجز جيشها عن الثبات على عدّة كيلومترات في جنوب لبنان باستخدام قوة نارية غير مسبوقة، وباستخدام وسائل استخبارية مبهرة، ورغم تمكّنها من اغتيال معظم القيادات في المقاومة اللبنانية، وأجبرت على وقف لإطلاق النار مع «حزب الله» اللبناني الذي كان بكامل لياقته العسكرية حتى اللحظات الأخيرة من القتال.
وحتى في القطاع فإنّ المقاومة لم تُهزم، وهي تقوم بعمليات نوعية، وجيش الاحتلال أمام عملية استنزاف، ولا تقدّم في موازنة ومعادلة الأهداف الإسرائيلية أي فرق جوهري حقيقي لكلّ ما تقوم به قوات الغزو الإسرائيلي.
وبما أنّ «حماس» هي العمود الفقري للمقاومة في القطاع فإنّها تكون قد خسرت دون أن تهزم، وتكون خساراتها قابلة للتعويض سياسياً أكثر من قدرة كلّ «حلفائها» في «المحور».
ولذلك فإنّ الحدث السوري قد وجّه ضربة قاسية لـ»محور المقاومة»، ولكنه أعاد «حماس» من موقع المطلوبة للتصفية والاستئصال، وتدمير كلّ مقوّمات وجودها الميداني أو معظمه إلى موقع جديد تكون بموجبه قد تجرّدت من قوّتها العسكرية، طوعاً أو كرهاً، وأعدّت نفسها لأدوار سياسية موعودة من الحليفين التركي والقطري، وبمباركة أميركية غير معلنة حتى الآن، وربما بتقبّل إسرائيلي لاحق وعند أوّل تغيير سياسي في دولة الاحتلال، خصوصاً أن دونالد ترامب مصمّم على «اقتراح» صفقة أكبر كما يبدو، ليس للتفاوض، وإنّما للقبول أو الرفض ــ كما فهمت ــ من السياق الجاري نحو مرحلة ما بعد الصفقة الصغيرة.
إذا كانت الأمور تسير وفق هذه الوجهة ــ وأرى أنّها تسير بهذا الاتجاه ــ فإنّ ذلك سيعني أنّ «حماس» باتت مستعدّة لدخول «المعترك» السياسي من موقع المحافظة على دورها الكلّي في كلّ الحالة الفلسطينية، وليس فقط في القطاع في مرحلة ما بعد الصفقة، وباتت مستعدّة لأن تكون جزءاً من عملية سياسية كلّية، واسعة وشاملة، وهي بالتالي موضوعياً أصبحت أقرب إلى الانخراط في نفس مسار الرسمية الفلسطينية، إذا نظرنا للأمور من الزاوية الموضوعية، وباتت الأخيرة مطالبة بإدراك هذا الواقع الجديد إذا أرادت أن تقلع نحو تحضير الحالة الوطنية «لمفاجآت» المرحلة القادمة.
هذا متغيّر هائل ناتج عن ارتدادات الحدث السوري، لا يمكن قراءة الواقع الفلسطيني الجديد دون إدراك أبعاده الحقيقية. هذا من ناحية، أمّا من ناحية أخرى فإنّ «النظام العربي» لا يبدو «مرتاحاً» تماماً للمشهد السوري، ولديه مخاوفه بالرغم من كلّ محاولات «التطمين» التي يجهد بها الحلفاء المصطفّون لنصرة النظام الجديد في دمشق.
وإلى أن يتبيّن الخيط الأسود من الأبيض حيال موقف «النظام العربي» وأقصد الموقف الحقيقي وليس الإعلام المعلن فإنّ الأمر قد يتّجه إلى مسارات معاكسة.
الموقف السعودي هو الموقف الأهمّ في الواقع العربي لأسباب عدّة، ولعلّ أهمّها على الإطلاق هو أنّ لا دور لسورية الجديدة في خطوط الغاز والنفط من دون السعودية، ولا دور للتحالف القطري والتركي إلّا بموافقة ورضا السعودية، ولا دور لـ»الإخوان المسلمين» من دون موافقة السعودية، والخوف منهم على استقرار الأردن ومصر تحديداً هو مصلحة سعودية حيوية إلى جانب دول عربية أخرى.
والنظام العربي لن يقبل بحركة حماس «سياسياً» إلّا إذا نأت بنفسها عن المشروع السياسي المباشر لـ»الإخوان»، وهو واقع لا تستطيع «حماس» أن تقوم به، في ظلّ إغراءات الاصطفاف الجديد للحركة، ما يعني أنّ «النظام العربي» قد لا يكون متحمّساً لانخراط الأخيرة في عملية سياسية قبل شروط يراها ضرورية في هذه المرحلة.
في المقال القادم سنتناول انعكاس الحدث السوري على المؤسسة الرسمية الفلسطينية، وعلى بقية الفصائل التي افترقت عن «حماس» بعد هذا الحدث.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية