اعتدتُ أن أراقب الحمار الهزيل ذا اللون الرمادي كل صباح، هو مربوط بسلسالٍ حديدي ينتهي بقفل كبير إلى الهيكل الإسمنتي لعمود الكهرباء، كنتُ أُحس بسعادته عندما يُحرره صاحبه من العربة الخشبية الثقيلة عند حلول المساء، كان يصدر نهيقاً طويلاً وكأنه تخلص من عبء ثقيل، طلبتُ ذات يوم من صاحبه أن يطيل له الحبل حتى يستلقي على الأرض، نظر إليَّ صاحبُه نظرة استغراب ممزوجة بالاستنكار، ولم يرد عليَّ، كانت المسافة بين مكان نومي ومكان ربط الحمار واستراحته في الشارع العام المكتظ بالخيام أقل من ستة أمتار، يفصلني عن مربطه قماشُ الخيمة فقط!
منذ أن قرأت كتاب (حماري الحكيم) في القرن السالف وأنا أحاول أن أفسر لغة الحمير كما فسرها الكاتب والأديب الساخر توفيق الحكيم.
اعتدت أن أركب على عربة جاري الحمار الخشبية كل يوم، وجهُهُ محاطٌ بلجام من الجلد القاسي، وغطاء من الجلد على جوانب عينيه ليلتزم بالمسار المحدد التزاماً تاماً، لجام جلدي معقود بين فكيه يصل إلى يد صاحبه، انبوبان من الحديد الصدئ يربطان العربة الخشبية بجانبَي ظهره، هو أسير سجين، يجر العربة الخشبية وعلى متنها أكثر من عشرة مسافرين وسط شارع مملوء بمياه سوداء آسنة، على الرغم من كل هذه العبودية، فإنه يحتمل كرباج قائده التي أدمت مؤخرته، ظهره لوحة مشوهة من القروح والجروح، كنتُ أُبعد نظري عن ظهره المشوّه، توقفتُ عن توجيه اللوم والتقريع لصاحبه، كنت دائماً أُردد: «حرام عليك، كفَّ عن ضربه» لكنني تذكرتُ رداً وقحاً من أحد مالكي الحمير عندما قال رجل أحس بالشفقة على حمارٍ أصابه الإعياء لثقل الحمولة فانهار على الأرض، طالب هذا الرجلُ الرحيمُ من صاحب الحمار أن يكفَّ عن ضرب حماره رأفةً به، غضب صاحب الحمار المشغول بضرب حماره المنهار على الأرض بعصا غليظة لينهض، قال للرجل الرحيم: «اسكتْ بدلاً من أن أربطك مكانه»!
قررتُ أن استكنه شكوى جاري الحمار، وأن أصوغ حواراً بيني وبينه على غرار الحوار الذي دار بين توفيق الحكيم وحماره الحكيم في كتاب، (حماري قال لي) جاري الحمار في خيمة اللجوء قال لي: «أنتم بني البشر ناكرو معروف، تضطهدون من ينفعكم، وتعلون مراتب من تخشونهم ويضرونكم، أنتم تكافئوننا على تضحياتنا من أجلكم بالنكران والجحود، فنحن، الحميرَ، الوحيدون الذين يُقايضون العمل الشاق بالأكل فقط، ليس لدينا ملابس فاخرة للحفلات، وسلاسل ذهبية للمناسبات، وليس في جيوبنا أوراق مالية، وليس لدينا مصوغات ذهبية وحسابات بنكية، نتغذى على بقاياكم، وعلى الرغم من ذلك فإننا اليوم نعاني من المجاعة أكثر من معاناتكم، ما أشد ظلمكم لنا أيها المنكوبون بالاحتلال! فأنتم تنفسون فينا ضائقتكم، ألا يكفي أننا أصبحنا بديلاً عن سيارات الإسعاف، نحمل مرضاكم وجثث شهدائكم، وننقل متاعكم الثقيل بدون أن نشكو، وها أنتم تركبون ظهورنا صباحاً ومساء، نوصلكم إلى مبتغاكم، نحن لا نحتاج إلى شكركم، بل نحتاج فقط إلى أن ترفعوا عن ظهورنا سياطكم، وأن تطعمونا ما يجعلنا نحتمل أوزاركم».
كان جاري الحمار يستغل الفترة القصيرة جداً لاختفاء صوت بوق الطائرة الزنانة الذي يقتحم الآذان ويشوش العقول، لكي يرسل نهيقاً طويلاً ينتهي دائماً بصوت صفير بكاء حاد، وكأنه صراخ طفلٍ يطلب وجبة إفطارٍ تعينه على شقاء يوم طويل!
كنتُ عندما أُلقي له بعض ما يتوفر لديَّ من طعام أحس بأنه يود بحركة قدميه وتحريك أذنيه أن يشكرني، كنت أشعر بألمه وحزنه وبكائه، كنتُ أتجنب أن أنظر إلى ظهره الذي كان أشبه بخريطةٍ جغرافية محفورة بآلة حادة!
شكراً للأديب توفيق الحكيم لأنه علمني كيف أستكنه لغة الحمير، فقد أجرى هذا الأديبُ حواراً شيّقاً بينه وبين حماره، ومما جاء في كتابه على لسان حماره عندما افتخر بسلالته الحميرية قال: «نحن الحمير ليس عندنا زعماء، وقادة، ولا أوثان، ولا أوطان، بل يوجد حميرٌ على أرض الله، شعورُها واحدٌ، وقلبُها واحد، نحنُ الحمير، نُفكِّر جميعُنا تفكيراً واحداً، ليس عندنا حمارٌ (مثالي) وآخرُ (ماديٌ) فمنذ ظهورنا على الأرض، لم يُعرَف أننا سرقْنَا أكثر مما نستحقُّ بعرق الجبين، ولا نَعِمْنا بالترفِ والدلال، كما تنعم الخيول، حتى أنكم، أيها البشر، تنعتون مَن يعمل بِجِدٍّ وتفانٍ من جنسكم بفخر قائلين: إنه (حمار شُغل)».
ذات يومٍ اقترح حمار الحكيم أن يستحدث حزباً سياسياً، فصاغ حمار الحكيم مبادئ الحزب قائلاً: «نحنُ نشأنا في هذا البلد، نَعِمْنا بخيرهِ وخميره، رعيْنا برسيمَه، ونجيله، كلنا من أصحاب الفكر الراجح، ومِن قادة الرأي الناصح، لذا قررنا أن نساهمَ في الحركة السياسية بنصيبٍ، والعمل لمصلحة الغير، وإنكار المصالح الشخصية، هذا هو المأثور عن جنسنا، جنس الحمير».
علق توفيق الحكيم على مبادئ حزب الحمير قائلاً: «إذا أردنا نحن البشر أن تشكل حزباً بشرياً، يجب علينا أن تضع قبل المبادئ السابقة كلمة (لا) أي، لا للعمل لمصلحة الغير، ولا لإنكار المصلحة الشخصية».
وفي لقطة ساخرة من الكتاب قال الحمار لصاحبه: «هل نسيتَ أيها الكاتب يومَ أحصيْنا ما نشرتَه من أفكار في الصحف والمجلات، فوجدنا أنَّ كلَّ آرائكَ السياسية الحكيمة والحصيفة خرجتْ من رأسي أنا الحمار، أما آراؤكَ السخيفة فخرجت من رأسكَ أنت؟! اضطرب توفيق الحكيم وهمس في أذن حماره وقال: «هِس، حتى لا يسمعك أحدٌ»
أما عن جاري الحمار المنكوب بالجوع والألم فقد استيقظتُ في صباح يومٍ ماطر، كنت قد جمعت بقايا بعض الأطعمة في كيسٍ صغير لأضعها أمامه كإفطارٍ يعوضه عن شح الغذاء الأخضر واليابس، لكنني لم أجد جاري الحمار، كانت سلسلة لجامه الحديدي ما تزال مربوطة بعمود الكهرباء المثبت بالأسمنت المسلح بدون وجود جاري الحمار!
كنت أظنُّ أن صاحبه قد بكَّر في ركوبه إلى مهمة جديدة، غير أنني فوجئتُ بأن صاحبه يجري نحوي باضطراب يسألني: «هل رأيت الحمار؟ هززتُ رأسي نافياً، ابتسمتُ لتحرر الحمار من ربقة القيد، ظل صاحبه يردد وهو يسأل المحيطين عنه: «سُرقت ثروتي ومصدر رزقي ورزق عائلتي، أنا بعده لا أساوي شيئاً، ثمن شراء حمار جديد أغلى من ثمن السيارة الحديثة»!
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية