مجدداً تثبت نابلس أن بإمكانها خطف الأضواء وتصدير النماذج، فعندما تموج المدينة؛ يكون لديها أسبابها الوجيهة وتمتلك حجتها ودفوعاتها، مع أن مدينة النار والماء عادة تخفي سرّها، تهمس وتوشوش به، قبل أن يعيل صبرها.
رغم أن المطالبة بإقالة المجلس البلدي كان عنوانها المباشر أزمة تركيب عدّادات الماء مسبقة الدفع، إلا أنه بالواقع أعمق وأشمل من ذلك، كونه تعبيراً عن أزمة المدينة، أزمة ثقة بين الناس والمجلس المنتخب من قبلهم، فالتوقعات لم تنسجم مع النتائج أو مع ما وُعدوا به، ولم تجد المدينة منطقاً في المقاربة البديلة.
إشكالية البلدية متشعبة ومتعددة الأوجه وذات دهاليز غير معزولة عن الأزمة العامة في البلد، ذات الطبيعة السياسية والأمنية المعروفة.
الاستقالة أو الإقالة؛ تطرح الأسئلة الجديّة مع نتائج تجربة غنية في مجال العمل البلدي، رافقها سلبيات وإيجابيات، وأفرزت استخلاصات وتوصيات إصلاحية تمس القانون والإجراءات.
منذ تشكيل السلطة الوطنية، تم تنظيم عمليتين انتخابيتين في الضفة، وعملية انتخابية واحدة في قطاع غزة .
تعدَّل القانون أكثر من مرة في ضوء تجربته الواقعية على الأرض وتوافق القوى السياسية.
الانتقال من قانون الدوائر ونظام الأقلية والأغلبية إلى قانون الدائرة الوحدة والتمثيل النسبي! كما تغيرت نسبة «الكوتا» النسائية أكثر من مرة، لتستقر في نهاية المطاف على صيغة ما زالت تعاني من ثغرات، وما زالت القوى السياسية والاجتماعية تقلّب وجهات نظرها حول النظام الانتخابي الأفضل في الحالة الفلسطينية!
المهتمون بالحكم المحلي يتحدثون عن استقالة حوالي ستة وستين مجلساً محلياً في المحافظات الشمالية من أصل ثلاثمائة وثمانية وثلاثين مجلساً منتخباً، إضافة إلى إشكالات واحتياجات تشكو منها المجالس الأخرى. الإشكالات تحمل ذات السمات التي وقعت في الانتخابات الأولى عامي 2004 و 2005، شلل ومراوحة وخلافات ومقاطعة ونقص موارد، وسمات جديدة لها صلة بالواقع العام المأزوم.
لقد حذت جماهير جنين حذو جماهير نابلس بخروجها للشارع مطالبة استقالة المجلس البلدي، علاوة على إشكالات أخرى، نوعية الخدمات وجودتها، انقطاع الماء، العدادات، الديون، الشفافية والعلاقة مع الجمهور.
في نابلس، أعاد التاريخ نفسه، الاستقالة الثانية التي استدعت تعيين لجنة تسيير أعمال من مندوبي مديريات الوزارات، المرّة الأولى كانت في عام 2004 لدى استقالة المجلس المعيَّن آنذاك، بينما التعيين الثاني، وقع على خلفية استقالة المجلس المنتخب في عام 2012.
منذ البداية سجل على لجنة تسيير الأعمال خروجها عن معايير التشكيل المعتمدة، حيث وقع الاختيار على وزير النقل والمواصلات لترؤس اللجنة التي قد يستمر عملها سنة كاملة، بينما قانون الهيئات المحلية يشترط تفرغ رئيس اللجنة، ومنح الجمهور حق الطعن في القرار المخالف لشرط التفرغ، فهل يمكن لوزير أن يتفرغ عاماً كاملاً لتسيير الأعمال!
لقد سُجل على اللجنة ملاحظات من المنظور النسوي، واحتج الاتحاد العام للمرأة والمؤسسات النسوية في نابلس على خلوّ لجنة تسيير الأعمال من عضوية المرأة، الأمر الذي يظهر بجلاء حالة انفصام الشخصية في التعامل مع المرجعيات، بدءاً من وثيقة الاستقلال والقانون الأساسي مروراً بالانضمام إلى اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة وانتهاءً بقرار المجلس المركزي الذي تبنى كوتا نسائية بنسبة 30% من حجم مؤسسات ودوائر الدولة!
إنه حقاً سلوك معزول عن المبادئ، خاصة عندما يتعلّق الأمر بمجلس بلدي «نابلس»؛ إحدى أهم المدن الرئيسية المميزة بقياداتها النسوية والمهنية.
المكاسب التي تأخذها المرأة بنضالها قانونياً، يتم سحبها بمنتهى البساطة بالتعيين، ما يشير إلى هشاشة القانون وعدم تمتعه بحماية الساهرين المفترضين على القانون في السلطة التنفيذية، ويؤكد على المنهج والعقلية الذكورية وازدواجية الخطاب وفجواته.
استقالة بلدية نابلس، فتحت النقاش أيضاً حول قدرة الهيئات المرجعية كوزارة الحكم المحلي، على تصويب أوضاع الهيئات المحلية قبل تفاقم الأمور بالتدخل والرقابة، بدليل تحرك الشارع لفرض رأيه وديمقراطيته، الذي يعبر عن غياب الوزارة المختصة عن الفعل والتأثير والمتابعة.
لقد وضعت الاستقالة على الطاولة مظاهر وتجليات عديد الأزمات العامة، ربما لا يتسع المجال لتفصيلها وعناوينها: سياسات البلديات في تطوير الخدمات لصالح المواطن، نهج العمل الفردي وتهميش الهيئات والجماعة، المواطنين وحلولهم المقدمة للأزمة؛ مداها وحدودها، ديون البلديات وعلاجها، أمن البلد والمؤسسات، اللجنة المعيَّنة وقدرتها على تجاوز الأزمة وربما تدويرها، أثر التنافس الانتخابي على المجلس والحفاظ على النصاب السياسي.
وفي الختام، لا بد من طرح السؤال الشرير الأخير، هل ستستمر لجنة تسيير الأعمال إلى الأبد؟ سؤال موضوعي يشير إلى الهيئات المؤقتة وتسيير الأعمال في البلد.
من هنا يصبح التوجه، إلى تحديد موعد إجراء الانتخابات المحلية في المحافظات الشمالية والجنوبية، قراراً في الاتجاه الصحيح واستحقاقاً لا يمكن التهرب منه أو تسويفه..
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية