من منا لم يسمع في صغره قصة الرجل الذي ذهب يشتكي إلى الوالي ضيق الغرفة التي يسكن فيها مع زوجته وأطفاله، وكيف أن الوالي وعده أن يوفر مسكناً جديداً خلال ثلاثة أيام، وكيف انه طلب منه في اليوم الأول أن يستضيف عنده بقرة، وفي اليوم الثاني أن يتحمل وجود خروفين بجوار البقرة في نفس الغرفة التي يعيش فيها مع أبنائه، وفي اليوم الثالث أن يكون حليماً ويتدبر أمره مع مجموعة من الدجاجات في ذات المكان، وفي اليوم الرابع ذهب صاحبنا إلى الوالي يطلب التخفيف فخرجت الدجاجات وفي اليوم الخامس خرجت الخراف وفي اليوم السادس خرجت البقرة، ليكتشف الرجل في بحر أسبوع واحد أنه كان يعيش في مكان فسيح لولا الدخلاء الذين استضافهم لثلاثة أيام، يقال هنا أن الوالي كوى وعي المواطن، وبالتالي بات المستحيل واقعاً والأمر الواقع ليس مريراً، وأصبحت عقلية المواطن قابلة لتدبر أمرها مع كل التغيرات، بما في ذلك النكبات التي لا تتوقف.
هذا بالضبط ما صنعه المحتل مع أهل غزة على مدى السنوات العشر الماضية، كان أهل غزة يعيشون يومهم دون انقطاع للتيار الكهربائي، وكانت المياه العذبة تصل كل بيت، وكانت الشوارع معبدة والرقعة الخضراء واسعة، وكان المواطن الذي لا يرغب في إكمال تعليمه الجامعي يتوجه مباشرة للعمل في داخل الخط الأخضر براتب يعادل رواتب ثلاثة من كبار الموظفين في السلطة الوطنية، وكانت فرص العمل متاحة أمام الخريجين، وكانت المعابر مفتوحة، وكان المطر يعمل على مدار الساعة، والميناء قيد التجهيز، وأسعار الوقود وغاز الطهي في تناول الجميع، وفجأة تذكر المواطن الغزي ثوابته، وانطلق يسأل عن القدس واللاجئين والحدود والأمن والأسرى والاستقلال والحرية، وفجأة انقطع التيار الكهربائي، وتوقفت آبار المياه العذبة، وارتفعت أسعار المحروقات والغاز، وأقفلت المعابر والحدود، وهُدم المطار ومشروع الميناء، وتوقفت التصاريح ومعها فرص العمل، وتوقفت عجلة الاقتصاد، ودارت رحى ثلاث حروب متعاقبة أجهزت على مدخرات الناس وهدمت أحلامهم على ركام منازلهم وأشلاء أطفالهم، وهكذا جري كي الوعي الغزي مرة أخرى.
أعادت إسرائيل بإجراءاتها المواطن في قطاع غزة إلى المربع الأول من خيارات هرم ماسلو للاحتياجات الإنسانية، وبات الحديث عن الهموم اليومية والأزمات الحياتية أسبق على ما سواه من قضايا وطنية ومصيرية، وتعادلت فجأة أهمية القدس بأهمية الكهرباء وأهمية عودة اللاجئين بأهمية أسعار الغاز والمحروقات وأهمية تفكيك المستوطنات بأهمية فتح المعابر وأهمية تصاريح العمل بأهمية المعابر الحدودية وأهمية الأمن بأهمية المعابر التجارية ... وهكذا، ثم بات الحديث عن العودة إلى ما مرحلة ما قبل الاهتمام الغزي بالقضايا الوطنية الكبرى باعتباره إنجازاً وطنياً "غير مسبوق"، وهذه كذبة، فالمعابر بالأساس كانت مفتوحة، والمطار كان مفتوحاً والميناء قيد الإنشاء وفرص العمل كانت متاحة والتيار الكهربائي لم يكن يعاني من أزمات انقطاع متواصل والمياه العذبة كانت تصل المنازل، فمن هو المسؤول عن اعتبار استعادة الموجود أصلاً بمثابة انجاز وطني، هنا يكمن السؤال المُلح، وهنا نفهم أين نحن اليوم من كل ما نحن فيه، وأين نحن من الهم الوطني الجماعي، وأين خاتمة المشهد في ظل هذا السيناريو الذي لا أمل في انتهاء فصوله.
القصة بتقديرنا بسيطة وسهلة الفهم، والحل الجذري لهمومنا كذلك بذات البساطة، قليل من التواضع الحزبي، وشيء من الواقعية ويصبح الحل في متناول الأيدي، نقر أولاً أن الوطن، كل الوطن، ما زال تحت الاحتلال، وأن ولاية الاحتلال ومسؤوليته لم تتوقف، وأنه لا سلطان لنا على أية بقعة أرض فلسطينية، ومن ثم نذهب بقضيتنا إلى حيث مكانها الطبيعي، هيئة الأمم المتحدة، وهناك يتقرر مصيرنا كدولة محررة أو دولة تحت الاحتلال، إن كانت فلسطين محررة فسنجد كل أبواب الدنيا مفتوحة علينا، وإن كانت تحت الاحتلال فعلى الاحتلال أن يتحمل مسؤوليته تجاه كافة احتياجات الإنسان الفلسطيني، أما أن نقول بأن غزة محررة فهذه هي أم النكبات والكوارث التي لن تتوقف عن ممر مائي ومعبر تجاري وكيس أسمنت وزجاجة مياه معدنية إسرائيلية المنشأ، بل ستطال كل ما هو ثابت على هذه الأرض، ورسالتنا هنا إلى ساسة الوطن وولاة الأمر لا تجعلوا الصهاينة يخرجون لنا ألسنتهم بمنطق أنهم أعملوا فينا المثل الشهير الذي يقول "جوِّع كلبك يتبعك"!!!

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد