ظهرت حقيقة إسرائيل خلال العام الذي مضى، كما لم تظهر من قبل، أي منذ إقامتها قبل أكثر من سبعة عقود، وذلك لأكثر من اعتبار، بعض هذه الاعتبارات متعلق بها، أو بما وصلت إليه من تحولات داخلية، نقلتها من «دولة مؤسسات»، إلى كيان غير مستقر، انتقل بالدولة من حقل المؤسسات إلى حقل أيديولوجيا اللاهوت والتطرف، وبعض الاعتبارات التي أظهرت حقيقتها وطبيعتها غير القابلة للتعايش مع محيطها الشرق أوسطي، وربما مع العالم بأسره، هو ما حدث من تحولات إقليمية وكونية، وبما هو في طور التشكل من تغيرات وتحولات، تؤكد بأن الظروف الإقليمية والكونية التي أقيمت فيها إسرائيل، لم تعد هي نفس الظروف الحالية، ولا تلك التي تلوح في الأفق.
وفي عام واحد، وبعد ثلاثة عقود من «الهدوء» المحيط بإسرائيل، كان الصخب يعتمل بالشرق الأوسط، بسبب الحرب الثلاثينية والغربية على العراق، ومن ثم على ليبيا، وحتى سورية، منذ إطلاق ما سمي الربيع العربي، فيما كانت الجبهات المحيطة بإسرائيل، تمر في حالة هدوء، مبعثه عقد اتفاق أوسلو للسلام بينها وبين دولة فلسطين، ممثلة بـ»م ت ف»، وربما صمت الجبهات العربية، كان أحد العوامل التي ساعدت على التحولات داخل إسرائيل نحو اليمين والتطرف، والابتعاد عن مؤسسات الدولة المدنية الديمقراطية على النمط الغربي، وقد جاء ذلك بعد هجرات من دول الاتحاد السوفياتي السابق، وكذلك من أثيوبيا واليمن، وربما تأثرا بانتصار الغرب في الحرب الباردة، أيا يكن فإن المهم هو أن الخارطة الداخلية شهدت تتابعا في انزياح الدولة نحو اليمين والتطرف الديني والقومي إلى حد ظهور النزعة العنصرية الفاشية، والتي تجلت في الحرب التي أطلقتها قبل عام على قطاع غزة ، وترافقت فصولها بحرب على الضفة الفلسطينية، ثم على لبنان، والتي اعتبرها العالم حرب إبادة جماعية.
هكذا فإن إسرائيل خلال العام الماضي ظهرت على صورة مختلفة، ليس في نظر الفلسطينيين، ولا العرب، ولا المسلمين وحسب، ولكن في نظر العالم بأسره، حيث ترافقت مواقف القضاء الدولي، مع برلمان العالم، أي الجمعية العامة للأمم المتحدة، مع الموقف الشعبي العالمي، متمثلا في التظاهرات التي اجتاحت العالم كله، بشكل لم يحدث له مثيل من قبل، كلها تندد بإسرائيل، وترى فيها دولة تمارس حرب الإبادة الجماعية، ودولة ترتكب مجازر الحرب، ودولة مارقة لا تخضع للقانون الدولي، حتى أن التنديد الدولي بها وبقادتها ظهر جليا، مؤخرا بخروج العديد من وفود الدول قاعة الجمعية العامة، لحظة إلقاء بنيامين نتنياهو ، رئيس حكومة الاحتلال كلمته، فيما قاطع من ظل موجودا بالقاعة كلمته.
والحقيقة أن إسرائيل، هي من بقي لا يدرك حقيقتها، أو أن من يقودها، اليوم، هو من لا يزال يكابر، ويركب الريح، بالضد في كل الدنيا، والأهم بالضد من قوانين الطبيعة المجتمعية التي تحكم مسار التاريخ بشكل عام، أو ربما أن من يتحكم بمسار دولة إسرائيل يدرك بأن التحولات الكونية والإقليمية لم تعد تمنحها المزيد من الوقت، لذا فإنه يسارع من أجل تحقيق أفضل ما يمكن تحقيقه في ظل ما تبقى من وقت، ما زالت فيه الولايات المتحدة، تتحكم بهذا القدر أو ذلك بالعالم، أو على الأقل تتحكم بمقاليد معظم دول الشرق الأوسط، العربية خاصة، والحقيقة الأكثر تجليا هي أن إسرائيل أثبتت بأنها «بارعة» في التحكم بمقود الإدارة الأميركية، أيا تكن، أي جمهورية أو ديمقراطية، وهي تعرف «من أين تؤكل كتف» البيت الأبيض، وخير دليل على ذلك، هو نجاح نتنياهو في استثمار الإدارتين السابقة والحالية خير استثمار، فهو استغل وجود دونالد ترامب في البيت الأبيض كرئيس جمهوري، حيث إن الجمهوريين يمثلون الصناعة النفطية، التي تدفع نحو الاستقرار، فأخذ منه اتفاقيات أبراهام، واستغل جو بايدن الديمقراطي جيدا، ففي ظله، أمكنه أن يشن حرب إبادة جماعية ضد فلسطين ولبنان، دون أن يمنعه أحد كما قال قبل أيام جوزيب بوريل نائب رئيس المفوضية الأوروبية، مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي.
والحقيقة أنه ربما لم يكن بمقدور نتنياهو أن ينجح في مواصلة حرب الإبادة الجماعية لمدة عام كامل، لو كان هناك رئيس جمهوري في البيت الأبيض، وبايدن هو من أطلق الحرب بين أوكرانيا وروسيا، ومن ساعد إسرائيل على الاستمرار في حرب الإبادة بالشرق الأوسط، وذلك من خلال مشاركته إسرائيل على أكثر من مستوى، ففي غزة، تشارك أميركا بالاستخبارات والأقمار الصناعية في ملاحقة عناصر وقادة المقاومة، وتقوم بإمداد إسرائيل بالذخائر، بما فيها القنابل الثقيلة، كذلك شاركت قواتها في البحر الأحمر لفك الضغط البحري على الاقتصاد الإسرائيلي، وفي ردع «حزب الله» في المتوسط، أي في محاولة استفراد إسرائيل بغزة، بإغلاق جبهات الإسناد. كما أن واشنطن وبايدن وإدارته بالتحديد، قاموا بتسهيل حرب الإبادة، من خلال إغلاق الطريق على مجلس الأمن وعلى الاحتجاجات الدولية، من خلال بث أوهام رعاية جهد تفاوضي يؤدي إلى إنهاء الحرب.
لكن حصيلة عام مضى، أعادت إسرائيل إلى صورتها الأولى، وبشكل أسوأ، لأن تلك الصورة لم تقتصر رؤيتها على الشعب الفلسطيني، ولا على شعوب الشرق الأوسط وحسب. وخلال عام مضى، تغير شكل وطبيعة علاقة إسرائيل بالمحيط، بحيث ظهرت كدولة عدائية، تجاه الجميع، ولم يقتصر الأمر على عدائها للشعب الفلسطيني، وإنكارها حقه في الحرية والاستقلال، وظهرت إسرائيل كدولة تعتمد القوة العسكرية فقط، في التعامل مع المحيط، وكأنها تفرض وجودها وبتلك الطبيعة الفاشية بالقوة، وقد تأكد بأنها ما زالت دولة في «حالة حرب» مع المحيط، لم تغير معاهدات السلام مع خمس دول عربية من الأمر شيئا، بل إن شعوب الدول التي عقدت معها اتفاقيات السلام، تنظر إلى تلك الاتفاقيات، كما لو كانت اتفاقيات استسلام، أو كما لو كانت مفروضة في ظل لحظة ضعف، وفي أحسن أحوالها هي اتفاقيات رسمية، لا تحقق لا رغبة ولا إرادة الشعوب ولا مصالح الدول التي عقدتها، بل ربما تحقق مصالح نخب أنانية.
بل أكثر من ذلك، ظهر أن إسرائيل لا تقيم أي وزن لاعتبارات الإقليم، ولا لمصالح دوله، بل بدأت تظهر أطماعا توسعية علنا، ونزعات فاشية، وبشكل صريح، لكن الأهم الذي ما زالت لا تراه، هو أن هناك مقاومة، تصدت لها، كما لم يحدث معها من قبل، فقد فرضت عليها حربا طويلة الأمد، ألحقت بها خسائر على صعيد المكانة الدولية، كما أن المقاومة وضعت حدا لحروبها الخاطفة، ولتلك الحروب التي كانت تخوضها دون أن يطال داخلها، أي تأثير مباشر، ومن الواضح بأن «نزق» إسرائيل من حرب متعددة الجبهات، قد ظهر في كيفية خوضها للحرب، حيث صبت جام غضبها على المدنيين، وهكذا دمرت وقتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين، فيما اضطرت إلى استخدام سلاحي الجو والاستخبارات، حيث تبرع فيهما، وذلك من خلال القصف والاغتيالات، وما زالت لم تدرك بعد بأن الاغتيالات لا توقف المقاومة بل تزيدها اشتعالا.
وهكذا ظهر خلال العام الماضي بأن إسرائيل في حالة حرب متواصلة مع الإقليم، حرب طويلة الأمد، لن تتوقف ولا حتى بإعلان هدنة، الذي ربما فقط يضع حدا مؤقتا لها، فيما انسحاب إسرائيلي فقط، من الأرض المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية، وانكفاء إسرائيل كدولة داخل حدود مسالمة، ومتعايشة مع المحيط، ولن تكون إسرائيل دولة طبيعية ما لم تغير من طبيعتها.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية