لم يعد مجدياً العودة إلى الجهة التي تتحمل المسؤولية الأساسية عما آلت إليه الأمور في سورية بعد كل هذا الدمار الذي حل بالبلاد، وبعد فقدان أكثر من 240 ألف إنسان، وبعد كل هذا التدمير الذي طال الدولة والمجتمع على حدٍ سواء.
فلا نظرية «المؤامرة» ولا نظرية «النظام الطائفي» ولا حتى نظرية عنف النظام وعنف المعارضة بقادرة على تفسير الحالة السورية.
هل يعني هذا أن الحالة السورية عصية على التفسير وعلى التحليل؟
هل هي أحجية سياسية صعبة ومعقدة؟
وربما أن السؤال الأهم فيما إذا كانت الحالة السورية هي جزء عادي أو خاص من حالة «الربيع العربي» التي اجتاحت المنطقة؟
الإجابة على هذا السؤال وعلى الأسئلة السابقة مازالت ممكنة في حدود المعطيات القائمة اليوم.
وخلاصة المسألة أن النظام السوري فشل فشلاً ذريعاً في هضم واستيعاب الحركة الاحتجاجية، وهو الأمر الذي أعطى للقوى الخارجية، الدولية والإقليمية فرصة استثمار الحالة الأمنية التي فرضها النظام لفرض معادلة العنف والعنف المضاد. ومع تصاعد وتيرة العنف وتحوله إلى حالة شاملة وانتقاله (أي العنف الشامل) إلى الوسيلة الوحيدة للصراع بدأت تتغير المعادلة في سورية من صراع فيها إلى صراع عليها.
بهذا المعنى أصبح الموقف الإقليمي والدولي هو الحاسم في المعادلة السورية، وتحولت أدوات النظام وأدوات المعارضة على حدٍ سواء إلى مجرد أدوات في اللعبة الخارجية.
وبموجب هذه المعادلة اصطفّ إلى جانب النظام السوري بصورة مباشرة وفجّة أحياناً كل من روسيا وإيران وحزب الله، في حين اصطف في الجهة المقابلة الغرب وأدواته في المنطقة والإقليم، وخصوصاً النظام التركي والقطري وجموع منظومات الإسلام السياسي بكل أطيافه، وعلى مختلف درجات تطرّفه بما في ذلك «الإخوان» ونظامهم المخلوع في مصر في ذلك الحين.
ومع تعمق الدعم الغربي لفصائل العنف والتطرف الإسلامي، ومع تطوع كل من تركيا وقطر لدعم وإسناد هذه الفصائل تراجع بصورة كبيرة وتدهوريه دور فصائل المعارضة المدنية وتنحّت جانباً بعد أن تحولت إلى قوى هامشية على مستوى الفعالية والقرار.
كما تدهور واقع النظام بنفس القوة والقدر، إذ تعمق بعده الطائفي والعائلي في ضوء فقدانه للكثير من حصانته السياسية والاجتماعية والثقافية وبعد ان انحسرت موارده الاقتصادية وتقلصت إلى حدودٍ مربكة.
وإذا كان النظام قد فشل في المحافظة على وحدة الدولة والمجتمع بل وفشل في السيطرة على مناطق النفوذ التقليدية المحسوبة عليه فإن المعارضة الإسلاموية قد فشلت هي بدورها في تقديم نموذج غير نموذج القتل والإجرام والتخلف القروأوسطي.
ليس في المعادلة القائمة اليوم أي اعتبار للديمقراطية أو الدولة المدنية أو حقوق الإنسان السوري أو كرامته. إن كل ما تنطوي عليه المعادلة هو بقاء النظام من عدمه وبقاء الأسد من عدمه من جهة وسيطرة وتحكم داعش والنصرة واخواتهما من عدمه أيضاً من جهة أخرى.
العناصر الجديدة في هذه المعادلة هي التالية:
الأول، الموقف الإيراني بعد الاتفاق النووي مع الغرب.
الطموح الإيراني هو بقاء الأسد، فإن تعذر فبقاء النظام، وإن تعذر فلا أقل من نظام يضمن لإيران المحافظة على موطئ قدم يضمن بقاء حزب الله قوة فاعلة وحاسمة في لبنان، وبقاء سورية جزءاً من الفلك الإيراني.
أما الثاني، فهو الموقف الروسي.
الطموح الروسي هو أيضاً بقاء الأسد، فإن تعذر فنظام سياسي يضمن العلاقات الخاصة بموسكو، وخصوصاً «حقوق» الأسطول الروسي في المياه السورية.
الثالث، هو الموقف التركي وهو الموقف الذي بات على استعداد للمساومة على كل شيء باستثناء تحول الجنوب التركي إلى إقليم متمرد، أو ربما مجرد جزء من الحالة الكردية الناشئة على مستوى كل الإقليم الذي يحتضن الأكراد.
الرابع، هو الموقف السعودي. حيث أن السعودية كانت هي العنصر الأساسي في ارتباك المعادلة الإقليمية، وكان الموقف السعودي ومازال هو الموقف الوحيد الذي يستطيع تغيير المعادلة بل وقلبها بالكامل وتحويل التوازن نحو الحفاظ على الدولة السورية ووحدة المجتمع فيها.
تستطيع العربية السعودية أن تنهي الوجود الفعال لفصائل الإجرام والإرهاب المتواجدة على الأرض السورية، وتستطيع لجم الأطماع التركية والإيرانية من خلال الحفاظ على نظام سوري متوازن وانتقالي سواءً بالأسد أو بدونه.
التفاهم الروسي السعودي، وتالياً التفاهم الإيراني السعودي هو الحل السياسي الوحيد الممكن للحفاظ على سورية دولةً ومجتمعاً، وبدون ذلك فإن الحل العسكري مهما بلغت شدته وضراوته فإن مصيره هو التقسيم ولا شيء غير التقسيم. فلا قطر ولا تركيا ولا الإخوان عادوا بالأهمية التي كانوا عليها في بداية الأحداث وعند منتصفها، ولا الحركة الوطنية السورية باتت على أي درجة جادة من الأهمية، ولا الرئيس الأسد ونظامه باتا بقادرين على تغيير المعادلة بدون التفاهم الروسي الإيراني السعودي.
لم يعد تقسيم سورية مصلحة مباشرة لإيران، وهو ليس مصلحة مباشرة لتركيا، وروسيا لا ترى في التقسيم حلاً للأزمة هناك، وبطبيعة الحال فإن السعودية يستحيل أن ترضى أو تقبل التقسيم.
لهذا فإن الحل في سورية سينجح فقط عندما تحصر عناصر المعادلة فيها بعناصر الصراع فيها وليس عليها.
يمكن أن يتم التوافق على الصراع فيها ولكنه يستحيل التوافق على الصراع عليها.
إذا نجح الحل في غضون الأشهر القليلة القادمة فإن الغرب سيكون قد خسر أكثر من 90% من أوراق الحل هناك، وسيكون الإسلام السياسي الإرهابي قد غادر المشهد السوري مرة وإلى الأبد، وبذلك سي فتح الأفق من جديد لحلٍ في العراق خارج نطاق التقسيم والحكم الطائفي.
الحل العسكري في سورية انتهى والحل السياسي قادم لا محالة.
الحل ليس لتحقيق أهداف الثورة ولكنه الحل الذي سيمهد لها وهذه هي خصوصية الوضع السوري.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد