بصراحة تامة، فإن اختيار يحيى السنوار رئيساً للمكتب السياسي لحركة حماس كان مفاجئاً لأغلبية المراقبين والمتابعين.

والمفاجأة لا تتعلّق بالقدرات القيادية، أو الأهلية السياسية، أو أيّ شيء من هذا القبيل، لأنّ مثل هذا الاختيار كان سيكون طبيعياً في الظروف العادية. فالرجل هو قائد "حماس" في قطاع غزّة، والقطاع هو السّاحة الرئيسة بالنسبة لمكانة ودور "حماس"، وهو مركز قياداتها العسكرية، ومؤسساتها الرسمية، وغير الرسمية، والقطاع، أيضاً، هو المنطقة التي تتحكّم بها "حماس"، وتقيم سلطتها الإدارية المباشرة عليه، كما أنّ السنوار هو أصلاً، وفي واقع التراتبية التنظيمية لـ"حماس" (نائب رئيس المكتب السياسي للحركة).

المفاجأة لم تأتِ من هذه الزاوية، وإنّما أتت من زاوية أخرى تماماً. اختارت "حماس" أن تردّ على اغتيال رئيس مكتبها السياسي وهو المعروف بالمرونة والانفتاح، والاستعداد العالي للحوار والمحاججة، والجاهزية للتراجع والمراجعة، والذي كان قادراً على الدوام على إتقان فنّ الإصغاء والتفاعل الحريص مع الآراء المختلفة، لكي توصل لدولة الاحتلال عدّة رسائل، كلّ واحدة منها أكبر من الأخرى، وأهمّ من الأخرى.

الرسالة الأولى من هذا الاختيار، هو أنّ "حماس" تعي جيداً مكانة السنوار بعد هذه الحرب من نواحي الأَنَفَة الوطنية، والصمود والصلابة، والقدرة على التحكُّم بإمكانيات الحركة ومُقدّراتها، وهي بالتالي تقول لدولة الاحتلال، إنّ اختيار السنوار يحمل كلّ هذه المعاني، ويعكس كلّ هذه القيم، وكلّ هذه الاعتبارات، وإنّ الحركة ماضية في هذا الطريق، ولن تحيد عنه، وها هي تختار الشخصية التي تجسّد كل هذه المعاني، والقيم والاعتبارات بشخص السنوار.

وبهذه المعاني كلّها فهي رسالة تحدّ وصمود وصلابة، وهي تأكيد لا يحتمل سوى هذه المعاني، ولا معاني أخرى غيرها ما راهنت عليه، أو "أرادت أن تقنع نفسها بأنّها تراهن عليه" دولة الاحتلال.

والرسالة الثانية التي أرادت أن توصلها "حماس" إلى الجميع، وإلى كلّ من يهمّه الأمر، بأنّ قادة الحركة كلّهم يقفون في الصفوف الأولى من هذه المعركة، وإذا جرى وأن تمكّنت دولة الاحتلال من اغتيال هنية فإنّ السنوار هو المطلوب رقم واحد على قائمة الاغتيال منذ أكثر من عشرة شهور من القتال الضاري، والدّامي والمرّ، وأنّ دولة الاحتلال التي أُنهكت من جرّائه، ودفعت أثماناً باهظة فيه، وقُتل لها المئات وجُرح الآلاف في ملاحقة السنوار هو بمثابة صفعة قوية لهذا الاحتلال، وأنّ هؤلاء القادة لن يتراجعوا عن مشروع مقاومتهم لهذا الاحتلال الكولونيالي، وهم مستعدّون جميعا لدفع الثمن المطلوب، بلا تردّد من أيّ نوع كان.

أقصد أنّ "حماس" أرادت من خلال هذا الاختيار المتحدّي أن تقدّم نموذجاً فريداً من القيادات الجاهزة للتضحية، والمستعدّة للاستمرار في طريق هذا الافتداء، وهذه التضحية.

الرسالة الثالثة، واضح أنّه منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وحتى يومنا هذا أنّ الحدود الفاصلة التي كان تبدو واضحة وبارزة بين قيادات الداخل، وقيادات الخارج للحركة قد بدأت بالاختفاء والتلاشي، حيث أصبح الداخل والخارج على نفس درجة الخطر من زاوية الاستهداف الصهيوني لكلّ هذه القيادات، وأصبح التهديد باغتيالهم حقيقياً ومباشراً، ومن لم يتمّ تحديد اسمه على قائمة الاغتيال فهذه ليست سوى مسألة وقت، ومسألة أولويات بالنسبة للمخطّطات الإسرائيلية، والأمر لا يحتاج إلى دليل إذ تمّ اغتيال صالح العاروري وهنية من الخارج، ولم يتمّ الوصول إلى أعضاء في المكتب السياسي في الداخل بعد.

الرسالة الرابعة في هذا الاختيار، هي أنّ "حماس" قد غلّبت البُعد السياسي على البُعد العملي بسبب ظروف وملابسات ومتطلّبات المعركة المُحتدمة في القطاع، وفي الضفة، وفي جبهات مشتعلة في الإقليم، وفي جبهات على حافّة الاشتعال فيه.

من الواضح أن السنوار لن يتمكّن بصورة عملية مباشرة من "التحكُّم" بكلّ سير الأحداث، وكلّ متطلّبات قيادة "حماس"، في الداخل والخارج للأسباب المعروفة، وواضح أنّ دوره كرئيس للمكتب السياسي سيتمّ عَبر نوّابه ومساعديه، وأنّهم سيواصلون نشاطهم وأعمالهم في الداخل وفق الاعتبارات الخاصة المعروفة، كما سيواصلون أعمالهم ومهمّاتهم في الخارج وفق اعتبارات أخرى، قد تحتاج إلى الكثير من الحيطة والحذر، ولكنهم لن يخضعوا مباشرةً للاعتبارات الأمنية الخاصة، كما هو حال زملائهم في الداخل، ما يعني أنّ تغليب الاعتبار السياسي في اختيار السنوار لن يؤثّر شيئاً جوهرياً في أداء قيادات الحركة لمهامهم، ولن يغيّر في استمرار عملهم ونشاطهم على هذا الصعيد، وهو ما يعني أنّ هذا الاختيار ليس مجرّد ردّة فعل انفعالية أو عاطفية على اغتيال هنية، وهو بهذا المعنى اختيار عقلاني مدروس، والإجماع عليه هو الدليل السّاطع على ذلك.

حاولت بعض الأوساط أن تشكّك في هذه الخطوة من قبل "حماس"، وخصوصاً لجهة الحديث عن "تعيين"، وليس "اختياراً".

الحقيقة أنّ التشاور قد تمّ فعلاً بين كلّ قيادات الداخل والخارج، والأسماء التي طُرحت في وسائل الإعلام كانت مطروحة على جدول أعمال التشاور ولكن قبل اقتراح أن يكون السنوار هو رئيس المكتب السياسي للحركة وليس بعده.

وحسب ما "رَشَح" من بعض المصادر المقرّبة من دائرة القرار في "حماس" فإنّ مسألة الإجماع هي حقيقية، وأنّ القناعة بصحة هذا التوجّه كانت عالية وكبيرة.

أمّا الرسالة الخامسة، وهي رسالة مزدوجة، وربما تكون الرسالة الأهمّ من بين كلّ هذه الرسالة فهي أن "حماس" أرادت أن تؤكّد لدولة الاحتلال وجيشها، وأجهزة استخباراتها أنّ السنوار هو الذي يقود ويُشرف على إدارة هذه الحرب، وأنّه موجود في مكان آمن، ويتابع قيادته بصورة منتظمة. وفي هذا الشقّ من الرسالة دلالة خاصة ومهمة للغاية.

أمّا الشقّ الثاني من هذه الرسالة فإنّ "حماس" ــ على ما يبدو ــ باتت على دراية تامّة بما أصبح يشكّله السنوار من نموذج قيادي، ومن رمزية كفاحية، و"حماس" آثرت، إضافة إلى كلّ الأسباب التي أشرنا إليها في الرسائل السابقة أن تستثمر في هذه السمعة، وهذه الرمزية، وهذا النموذج لإعادة رصّ صفوفها، وإعادة الثقة بنهجها، وهو ما انتبهت إليه "حماس" من خلال هذا الاختيار.

في كلّ الأحوال ومطلقها فإنّ "حماس" قد وُفّقت تماماً في هذا الاختيار، وهي ــ كما أرى ــ ضربت دولة الاحتلال ضربة قوية، وهي ضربة مُعلّم حقّقتها الحركة دون أدنى شكّ.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد