صحيح أن الرئيس جو بايدن، بدا ضعيفا في مواجهة بنيامين نتنياهو ، وذلك منذ أن شكل نتنياهو الحكومة الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخ إسرائيل قبل أقل قليلا من عامين، وبدا ضعف بايدن في مواجهة نتنياهو بشكل أكثر وضوحا خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة والمستمرة منذ عشرة أشهر وحتى الآن، إلا أن بايدن وإدارته نجحا في منع تدهور الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى حرب إقليمية، مثلما يطمح الإسرائيليون، وذلك حتى يتصاعد مستوى المشاركة الأميركية من الدعم العسكري والسياسي والاستخباراتي إلى الانخراط في الحرب، بل ودخول الحرب خاصة مع ايران بالنيابة عن إسرائيل، كما فعلت أميركا قبل عقود حين شنت حربا إسرائيلية ضد العراق.

وظل بايدن طوال الأشهر الماضية منهمكا في الدفع بمفاوضات صفقة تبادل المحتجزين بالأسرى وبما يؤدي إلى وقف الحرب، وذلك بالضد من رغبة نتنياهو، وعلى خلفية ذلك ظهرت الخلافات بينهما، وذلك حتى يكون وقف الحرب في غزة مدخلا ليس لمنع توسع نطاق الحرب وتحولها إلى حرب إقليمية وحسب، ولكن إلى إنهاء الضغط العالمي وضغط الناخبين من الحزب الديمقراطي، على بايدن حيث كان مرشح الحزب، خاصة من قبل الجناح الذي يوصف بأنه يساري، وتزايد أعداد ونفوذ معارضي الحرب من الحزب، والذي دون توحده وانخراطه القوي وراء مرشح الحزب لن ينجح في الفوز على مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب، ولذا فقد كانت ورقة الصفقة مهمة جدا لبايدن حيث كان مرشحا رئاسيا، خاصة أن هناك خمسة محتجزين من المواطنين الأميركيين.

أما وقد انسحب بايدن من السباق، فإن إصراره على مفاوضات الصفقة، على الأغلب أن يخفت، في حين ستكون نائبته كامالا هاريس مشغولة بالجولات الانتخابية ومقارعة ترامب، فضلا عن كونها باتت هدفا للتحريض من قبل الفاشيين في الحكومة الإسرائيلية، من وزراء حزبي «القوة اليهودية» و»الصهيونية الدينية»، الذين نددوا بها علنا وصراحة بعد أن أظهرت موقفا أكثر صرامة ضد الحرب، حيث طالبت بوقفها فورا، وظهرت أكثر تعاطفا من الرئيس بايدن، مع ضحايا الحرب من مدنيي قطاع غزة، وكان في مقدمة هؤلاء كل من إيتمار بن غفير، الذي رد عليها بالقول، إن «الحرب لن تتوقف سيدتي المرشحة»، وبتسلئيل سموتريتش الذي هاجمها واعتبر مطالبتها بإنهاء الصفقة ووقف الحرب استسلاما ليحيى السنوار، وصولا إلى وزيرة الاستيطان الفاشية أوريت ستروك التي تنتمي لحزب «الصهيونية الدينية»، التي أعلنت صراحة بأنها لا تفضل هاريس كرئيسة قادمة للولايات المتحدة، وأنه من الأفضل ألا تصبح هاريس رئيسة لأميركا وذلك ردا على تصريحات الأخيرة بشأن الدولة الفلسطينية.

ومن الواضح أن الإسرائيليين قرؤوا فحوى رسالة الحزب الديمقراطي المتعلقة بانسحاب بايدن من السباق الرئاسي، والزج بهاريس بدلا منه، جاء انسجاما مع التغير المزدوج داخل المجتمع الأميركي وداخل الحزب الديمقراطي، والخاص بالعلاقة مع إسرائيل، التي باتت تكلف أميركا على حساب زعامتها للعالم، وحيث إن الحزب الديمقراطي، كان قد قدم بايدن كنسخة أكثر اعتدالا بقليل عن ترامب المحافظ التقليدي، لذا فاز عليه بشق الأنفس قبل أربع سنوات، فإنه، اليوم، ولأن العالم تغير، والناخب الأميركي حين يجد نفسه بين الأصل والصورة يختار الأصل بالطبع، وقد تأكد الحزب الديمقراطي من أنه لن ينجح بالفوز على المرشح الجمهوري، إلا بمرشح مختلف عنه تماما، لهذا فإن هاريس تقدم صورة مختلفة عن ترامب ليس من حيث العمر والحيوية وحتى الأصل الآسيوي - الأفريقي، ولكن في البرنامج والخطوط العامة للسياسة الخارجية، والداخلية بالطبع معا.

وكان أمرا ذا دلالة بالغة أن ينخرط مؤيدو الحزب الديمقراطي من ممولي ومتبرعي الحملة الانتخابية بهمة منذ أول يوم لإعلان انسحاب بايدن ودخول هاريس السباق فورا، بعد أن أحرج بايدن الحزب الديمقراطي خلال المناظرة بينه وبين ترامب، ها هي استطلاعات الرأي تشير إلى التقارب في الأرقام بين هاريس وترامب، بعد أن كان ترامب يتقدم طول الوقت على بايدن، خاصة بعد المناظرة، وقد أجرت «فوكس نيوز» استطلاعا للرأي في ثلاث ولايات متأرجحة عادة ما تحدث الفارق، بين المرشحين، وقالت، إنه في ولايتي بنسلفانيا وميتشغان تعادل ترامب وهاريس، فيما تقدم ترامب في ويسكونسن بفارق نقطة واحدة فقط، فيما قالت «وول ستريت جورنال»، إن هاريس قلصت الفارق الذي كان بين ترامب وبايدن لصالح المرشح الجمهوري بفارق 6 نقاط، إلى نقطتين فقط.

ليس هذا وحسب، بل إن أعداد المتطوعين فاقت أي تصور، حيث انضم أكثر من 170 ألف متطوع لحملة هاريس بعد انسحاب بايدن، أي أن فرصة هاريس في الفوز وخلال أيام معدودة باتت جدية، بعد أن كانت هزيمة بايدن أمام ترامب تبدو شبه مؤكدة، وحتى لو خسر الحزب الديمقراطي انتخابات الرئاسة، فإنه مع هذا الزخم الانتخابي الذي وفره دخول هاريس السباق بدلا من بايدن، بات مطمئنا إلى أنه سيخوض منافسة حامية ضد خصمه في انتخابات الكونغرس النصفية، أي أن الحزب الديمقراطي حتى لو خسر الانتخابات فإن خسارته لن تكون فادحة، أي لن تشمل البيت الأبيض والكونغرس بغرفتيه النواب والشيوخ.

ويبدو أن الحزب الديمقراطي كان أكثر ديناميكية من خصمه الحزب الجمهوري، من حيث أنه قرأ نتائج الانتخابات في كل من بريطانيا وفرنسا، حيث فاز حزب العمال بشكل قياسي، وتقدمت في فرنسا الجبهة الشعبية التي تشكلت من أحزاب يسارية قبل أيام من موعد الانتخابات، لترد بذلك على معاقبة الناخبين الفرنسيين للرئيس إيمانويل ماكرون، ولكن ليس لصالح اليمين المتطرف، بل لصالح الاشتراكيين والشيوعيين الفرنسيين المؤيدين للحقوق الفلسطينية والمنددين بالفاشية الإسرائيلية، وذلك بعد معاقبة الناخبين البريطانيين لحزب المحافظين بزعامة ريشي سوناك، الذي تورط إلى حد المشاركة في حرب الإبادة.

في ظل هذه الصورة، لا بد من قراءة معاكسة لها، فنتنياهو الذي لا يريد وقف الحرب حتى لا يجد نفسه وقد خرج من المسرح السياسي، بات يرى عكس ما يراه الآخرون، من أن وقف الحرب على غزة سيوقف جبهات الإسناد في لبنان واليمن خاصة، وهو لأنه معني باستمرار الحرب، فإنه لن يوقفها في غزة، بعد أن قال هو شخصيا ومنذ وقت، إنها ستنتقل إلى المرحلة الثالثة، بعد آخر فصل من فصول الحرب البرية الطاحنة في رفح، قبل 3 شهور، ونزولا عند رغبة الجيش والأجهزة الأمنية وعائلات المحتجزين، ولكن قد يوقفها أو يتركها هكذا على طريقة «كاسر الأمواج» في الضفة الغربية، بعد أن يشعلها في جنوب لبنان، ولهذا فإنه رغم التقدير بأن ضغط البيت الأبيض عليه من أجل عقد صفقة التبادل قد ينخفض حتى تشرين الثاني القادم، إلا أن هدفه من حرب الإبادة على غزة، وهو جر أميركا للحرب مع ايران، وسحق كل أعداء إسرائيل حتى يخلو لها افق الشرق الأوسط، ما زال قائما، بل يرى فرصته الأخيرة في هذه الحرب، قبل أن تعلن ايران إجراء التجربة النووية.

وبعد أن انفتحت الحرب المباشرة بين إسرائيل واليمن بعد وصول الطائرة اليمنية المسيرة إلى أجواء تل أبيب ورد إسرائيل في الحديدة وانتظار رد نوعي يمني، جاءت عملية مجدل شمس، لتكون بمثابة فتيل إشعال الحرب الإقليمية الذي ينتظره نتنياهو وشريكاه في النزعة الفاشية، بن غفير وسموتريتش، وإذا كان آخر ما يقول به الإسرائيليون هو أن درء الحرب الإقليمية يتوقف على رد «حزب الله» على إقدام إسرائيل على فعل عسكري غير مسبوق، فإن «حزب الله» انطلاقا من حقيقة كون عملية مجدل شمس ناجمة عن صاروخ اعتراضي إسرائيلي، ربما كان مقصودا، لأنه استهدف الدروز في الجولان المحتل، وقد أشار الزعيم وليد جنبلاط إلى هذا صراحة، ولو كان «حزب الله» هو من استهدف المدنيين الإسرائيليين لأطلق صاروخه على بلدة يهودية صريحة، وليس على إخوته من مواطني الجولان المحتل، فإن «حزب الله» سيرد خاصة أن الصراع العسكري يدور حول الردع.

لكل هذا، فإننا نظن بأن الصراع في الشرق الأوسط بات على اشده، ولا توقفه حتى اتفاقيات عابرة أو مؤقتة، لا عسكرية ولا مدنية، بل هو جزء من صراع كوني، بين عالمين، أحدهما أحادي يسعى للهيمنة المنفردة، والثاني متعدد، ولعل الشرق الأوسط كنظام إقليمي هو على هذه الشاكلة، فإسرائيل تريده نظاما تحت سيطرتها الوحيدة، فيما تقاوم هذه النزعة وهذا الطموح، دول وقوى، منها ايران ومحورها المقاوم، ومنها حتى الدول الصامتة، مثل تركيا والسعودية حتى مصر.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد