خَلا مؤتمر «ميزان المناعة والأمن القومي الإسرائيلي» لهذا العام من الغطرسة التي صاحبت هذا المحفل منذ أن بدأ لأول مرة عام 2000 كفكرة جاءت من مستشار الأمن القومي الجنرال عوزي أراد، لحاجة إسرائيل إلى فحص سنوي لقدراتها والتهديدات المحيطة، واكتشاف الأخطار التي تحيق بها، وكيفية التصدي لها وفحص مدى جاهزية الدولة للتعامل معها.
فقد عُقد هذا العام تحت غبار الصواريخ والمجازر، وبالتالي لم يحظَ بالأهمية كما المؤتمرات السابقة التي دُرج على عقدها سنوياً باعتبارها المؤسسة البحثية الأكبر من بين مائة مؤسسة في إسرائيل، يحضره نخبة رجال السياسة والأمن الحاليين والسابقين ورجال الاقتصاد والديمغرافيا، لدرجة أن أحد الصحافيين قال في المؤتمر الأول إن مَن لم يحضر المؤتمر لا يُعد من النخبة.
السبب الثاني لعدم الاهتمام بالمؤتمر الذي عُقد يومَي الخامس والعشرين والسادس والعشرين من حزيران الماضي هو أنه كان مؤتمراً باهتاً انعقد وسط ضربات شديدة جرحت الأمن القومي، وأن مناعة إسرائيل التي ينعقد من أجل تحصينها المسبق قد ضعُفت وبشدة، ولم تترك للحضور ما يقولونه، لذا لم يكن من الغريب أن يتجاهل المؤتمر ما يجري عسكرياً في ساحات القتال.
انعقد المؤتمر في ظل استباحة الأمن القومي وتآكل المناعة بدرجة لم تشهدها إسرائيل منذ إقامتها، حيث تعرضت لآلاف الصواريخ من غزة ولبنان وحتى من إيران، ونزح سكان بلدات من بيوتهم لأول مرة منذ بداية الحرب، وليس هناك حلول لأزمات جوهرية. فإذا كان يتم البحث في مؤتمرات سابقة عن أخطار خارجية ووضع حلول وتوصيات متكئة على الجيش العجل المقدس، فهذه المرة يقف الجيش عاجزاً عن إعادة مواطنين إسرائيليين إلى أماكن سُكناهم، وعاجز عن وقف تدفق صواريخ ومسيّرات من الشمال، وحزب الله يضرب يومياً، وخلال العام جاءت من بعيد صواريخ من إيران، أي أن المكان الذي لم يغب عن كل المؤتمرات سابقاً هذه المرة وجدوه في داخل إسرائيل.
الأهم في هذا المؤتمر ليس ما تم بحثه كما عادة المؤتمرات، بل الأبرز فيما لم يبحثه المؤتمر. فقد بحث عن العلاقة مع الولايات المتحدة والفجوة القائمة مع الحكومة والخوف من تراجعها وتأثير ذلك على الأمن القومي «قضية هامشية قياساً بالمؤتمرات السابقة» لكنه تجاوز أزمة الهشاشة القائمة واستعصاء الخيارات وخصوصاً فيما يتعلق بالجبهة الشمالية، ومن اللافت أن يتجاهل مؤتمر ميزان المناعة تآكل المناعة بهذا الشكل.
البعد الديمغرافي كان غائباً عن أوراق المؤتمر، وقد تجاهلت الأوراق هجرة أكثر من ربع مليون إسرائيلي فيما شهدت قدوم 2000 إسرائيلي هذا العام، أي بمعدل 10% من الرقم الذي استقرت عليه الهجرة في العقدين الأخيرين، وهذه كارثة لمشروع قام على الهجرة وإحصاء الارقام التي تقوم بها مراكز دراسات متخصصة ودولة تعمل جاهدة على تهجير يهود العالم إلى إسرائيل، وكبح الهجرة منها، وبين المؤتمر الحالي والسابق كان الميزان عكسياً تماماً وبفجوة هائلة جداً.
مؤتمر هرتسيليا الأول الذي عُقد قبل أربعة وعشرين عاماً قدم فيه الباحث أرنون سافير نجم المؤتمر آنذاك ورقةً كانت الأهم في ذلك المؤتمر تتعلق بالديمغرافيا التي تخصص بها، فقد خُصص المؤتمر للملف الديمغرافي بعد أن وقّعت إسرائيل اتفاق أوسلو، وبدا أن هناك تراجعاً في التهديدات الأمنية، وكان لتهدئة العلاقة مع الفلسطينيين ما يخفف توترها في مناطق أخرى، فبدأت البحث عن تهديدات أخرى كانت الديمغرافيا رأس أولوياتها. ومِن مؤتمرٍ صُمم لدراسة التهديدات الديمغرافية والأغلبية اليهودية بعد أربعة وعشرين عاماً إلى مؤتمر يهرب من نقاش الديمغرافيا، ما يمكن أن يلخّص سلسلة أزمات دخلتها إسرائيل وباتت تشكل سمة بارزة فيها.
لم يكن هناك الكثير مما يقوله المؤتمِرون، فقد غابت الحيوية والنجومية التي كان يعتليها أبطال المؤتمر، فلم يعد الأمر نظرياً، فالدولة في حالة حرب تفشل في الإجابة على الكثير من أسئلتها، ولم يكن من الممكن لأي من المؤتمِرين تقديم ورقة تحمل إجابات، فمَن يستطيع وضع توصية ترد على عناد حزب الله؟ مَن لديه قدرة على تقديم وصفة تحويها ورقة عمل عن عودة سكان البلدات الشمالية؟ مَن لديه إجابةٌ أو حل للذين يغادرون الدولة بعضهم بلا رجعة، وهذا صميم المشروع القائم على تجميع يهود العالم فيها، فلم يصدر سوى نداء خافت وحزين من رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت يرجو فيه الإسرائيليين ألا يغادروا ... لكنهم غادروا ..!
من تابع مؤتمرات هرتسيليا على مدى ما يقارب ربع قرن كان يلمس التركيز على مسألتين كادتا تكونان اللازمة لتوصيات كل مؤتمر، وهما الديمغرافيا الفلسطينية وتداعياتها الأمنية، ثم إيران وملفها النووي وصناعاتها العسكرية. في هذا المؤتمر تم تغييب الديمغرافيا «اليهودية» وتغييب ما فعلته إيران وأذرعُها بأمن إسرائيل، وغابت أوراق الحلول وغاب وهج المؤسسة العسكرية التي تعجز عن إيجاد حلولٍ، وسطَ حربٍ إسرائيلُ بعدها لا تشبه اسرائيلَ قبلها. تلك سيرورة التاريخ الذي ترسب في قراءته.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد