حتى لو افترضنا جدلاً، بأن حركة حماس قد سلمت في هذه الساعة مفاتيح غزة للسلطة المركزية برئاسة الرئيس محمود عباس وحكومته في رام الله ، فإن السلطة ستجد نفسها في موقف لا تحسد عليه، ذلك أن "خطة طوارئ" على أقل تقدير، ستكون واجبة الإعداد والتنفيذ لحل مشاكل غزة العديدة والمتراكمة منذ أكثر من ثماني سنوات من العزلة والحصار وتوقف النمو في كل الاتجاهات وعلى كافة المستويات.

أول مشكلة مزمنة تواجه قطاع غزة، هي مشكلة انقطاع الكهرباء، التي لم يحدث يوماً خلال السنوات الثماني الماضية أن تجاوز توفرها نسبة الـ 50%، حتى بات منتهى طموح الناس أن تدوم تلك الطاقة في البيت بمعدل ثماني ساعات وصل، ثماني ساعات انقطاع (ربما حتى لا ينسى أحد الرقم ثمانية؟!)، وليس من الضروري الاستفاضة في شرح مضار انقطاع الطاقة الكهربائية التي ربما كانت سبباً في تسرب الطاقة من أجساد الناس، الذين أثقل الحصار كاهلهم لدرجة أن القنوط، الإحباط، واليأس، وقدراً عالياً من القدرية والاتكالية قد حطوا عليهم.
هل يمكن تصور أن يظل فصيل أو حزب أو حركة سياسية يرفع عقيرته بالشعارات الكبرى، من نمط تحرير القدس ، وانتزاع الحقوق الفلسطينية كاملة، ومقارعة إسرائيل عسكرياً، وما إلى ذلك، وهو عاجز عن حل مشكلة الكهرباء لذلك الجزء الصغير من فلسطين؟
ستجد أكثر من "مجالق" يقول، إن العالم كله قد تكالب "علينا" وإن أحداً لم يكن معنياً بنجاح تجربة حماس في الحكم، ورغم أن هذا القول لا يتعدى كونه كلاماً فارغاً "دوغمائياً" وهو غير صحيح بالطبع، ذلك أنه لولا مصلحة إسرائيل أولاً وقبول آخرين في بقاء ذلك الحكم الانفصالي، لسقط من أول يوم، بل لما نجح أصلاً، لكننا نرد فنقول، إنه في السياسة لا يستحق أن يكون في الحكم من لا يأخذ بعين الاعتبار كل الظروف والعقبات، المحيطة بالبلد أو المجتمع الذي يحكمه، وإلا كان يعيش في الوهم ويجر بلاده إلى الخراب والمجهول.
المهم أن مشاكل غزة لا حدود حصرية لها، وهي لا تتوقف عند حدود الانقطاع المزمن للكهرباء ولا عند حدود توفير مرتبات نحو 40 ألف موظف حمساوي، بل إن ما هو مطلوب توظيفهم أو توفير فرص العمل لهم، أكثر من ذلك بكثير، فإذا كان يهم حماس (فقط) موظفوها، فإن هناك عشرات آلاف الشباب من خريجي الجامعات، ومن المهنيين وحتى العمال، الذين لا يجدون فرصة عمل واحدة منذ ثماني سنوات مضت وحتى الآن، وهم يستحقون العمل الكريم أكثر من غيرهم، أو على الأقل مثل غيرهم.
هناك المرافق العامة، الطرق، المستشفيات، الملاعب، أماكن الترفيه، وهناك المدارس، والإسكان.
وبالطبع فإن الزيادة الطبيعية فقط، تحتاج إلى زيادة سنوية في هذه المرافق، فما بالنا ونحن نتحدث عن قطاع ضيق ومعزول ومكتظ بالسكان، والأنكى من كل ذلك أنه تعرض لثلاث حروب مدمرة، استنفرت العالم بأسره، بدافع من إراحة ضمير معذب، وفي مناسبتين، لإقرار برامج خاصة، رصدت لها المليارات لإعمار غزة بعد تدميرها، فيما منع الانقسام، وتصارع حماس و فتح على "سرقة ونهب" نسبة من هذه الأموال، في تنفيذ ما تعهدت به الدول العربية والأجنبية!
بعد 8 سنوات من العزلة والحصار وتفشي القنوط، الإحباط واليأس، باتت غزة تنتج الوهم بامتياز، فما زال البعض يراهن على سفن تركية أو غير تركية لكسر الحصار، وما زال البعض يراهن على صفقة تبادل للأسرى، وما زال البعض يراهن على أن حكم حماس لغزة سيسقط مثل ثمرة جافة، وحده، حيث سيتلقفها دون عناء، وما زال الكثير يعتقد أن غزة وحتى فلسطين يمكن أن "تنتزع" من بين أنياب الوحش الإسرائيلي حريتها بالقوة!
قبل أيام قليلة تداولت وسائل الإعلام قصة جزيرة "نورث سنتيال" الهندية النائية، الواقعة في المحيط الهندي، وعمرها 60 ألف سنة، حيث واجه سكانها طائرة هيلكوبتر عابرة بالقوس والسهام، كونهم يعيشون حياة بدائية، لم يختلطوا خلالها بالآخرين من البشر.
هذا هو مبعث الخوف على غزة، عزلتها، العزلة التي دفعت الرغبة في درئها، إيران لأن تقبل بالتنازل عن القوة النووية لصالح كسر الحصار، واسترداد أرصدتها المالية، كذلك يدفع تركيا للاعتدال السياسي حتى لو كلفها ذلك التنازل عن حكم الإسلاميين، حتى يمكن قبولها عضواً بالاتحاد الأوروبي، في يوم من الأيام.
ففي الوقت الذي يمكن للوحدة وتكاتف كل القوى - فقط - أن تواجه مشكلات غزة العديدة، تنفجر أخطر مشكلة تحدث حتى الآن وهي خطر وقف التعليم لنحو نصف مليون طالب يدرسون في مدارس وكالة غوث اللاجئين، وبدلاً من استنفار كل القوى، لطرق كل أبواب الدنيا لتوفير المال الضروري لتشغيل مدارس الوكالة، نجد أن فصائل غزة بالذات، وعلى طريقة جزيرة "نورث سنتيال" الهندية تقيم المعسكرات الصيفية، ليس للترفيه عن طلاب المدارس الذين هم بحاجة لشيء من الترفيه الرياضي والذهني، بإقامة الملاعب وتوزيع أجهزة اللاب توب وغيرها، ولكن لإقامة المعسكرات العسكرية لتدريب الأطفال على فنون القتال بالقوس والسهام، ولا يدرك هؤلاء أن العالم اليوم محكوم بالاقتصاد الذي جعل من قطر دولة إقليمية مؤثرة، ومن كوريا واليابان وحتى ماليزيا دولاً مهمة على الصعيد الكوني، ولم يجعل من أوكرانيا مثلاً، أو حتى كوريا الشمالية دولة ذات تأثير دولي يذكر، بل ولم يمنع عراق / صدام حسين صاحب خامس أقوى جيش إقليمي من السقوط والانهيار، ولا القذافي من السقوط، والأمثلة عديدة وساطعة.
Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد