كان يمكن لحرب عالمية ثالثة تحرق العالم بأسره أن تنشب، لو أن مذبحة النصيرات التي راح ضحيتها خلال ساعات أكثر من مائتي شهيد وأكثر من أربعمائة جريح، وقعت في دولة من دول الغرب، أو لو أنها كانت في صفوف الإسرائيليين، الذين ما زالوا يرتكبون المجازر الوحشية بشكل يومي، منذ أكثر من ثمانية أشهر متواصلة، كان منها: المعمداني، وأكثر من مجزرة في الشفاء، ورفح وجباليا، وخان يونس، وأخيراً في النصيرات، بدافع "تحرير" أربعة محتجزين إسرائيليين، وهذا يكشف تماماً البعد العنصري الرهيب الذي يتحكم في الإسرائيليين وحلفائهم الأميركيين، الذين لا يبالون بحياة الآخرين، وهم على استعداد لقتل مائتي فلسطيني وإصابة ضعفهم من أجل أربعة محتجزين فقط، فيما إسرائيل قتلت من الضفة الغربية أكثر من خمسمائة مواطن وأسرت نحو عشرة آلاف منذ السابع من أكتوبر، بما لا يدع مجالاً للشك بأن حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين هي حرب من أجل الاحتفاظ باحتلالها غير الشرعي لأرض فلسطين، وعلى أساس عنصري/فاشي لا يقيم أي وزن لحياة الفلسطيني، فضلاً عن حقوقه الطبيعية الأخرى كإنسان.

ولا يقل أو يختلف الحال مع حليف إسرائيل الأميركي كثيراً، ونقصد بالطبع المستوى الرسمي، ففي معرض تعليقه على جريمة الحرب الإسرائيلية، الكافية وحدها، لتكون سبباً ليس فقط في "جر" مجرمي حرب الإبادة الجماعية للسجن مدى الحياة في سجن الجنائية الدولية وحسب، بل وفي تعليق عضوية إسرائيل في المجتمع الدولي، ووضعها تحت الوصاية الإنسانية، رحب الرئيس بايدن بإعادة المحتجزين الأربعة، وأكد على أنه سيواصل العمل من أجل عودة جميع المحتجزين إلى أسرهم، ولم يشر بالطبع لا من قريب أو بعيد إلى أكثر من عشرة آلاف معتقل منذ السابع من أكتوبر، ولا إلى عذابات الشعب الفلسطيني التي لا حصر لها، لكن رد فعله الذي اقتصر على جانب واحد من العملية العسكرية الإسرائيلية، كان يشي بمشاركة الخلية الأمنية الأميركية كما قالت شبكة سي إن إن الأميركية في العملية التي اهتمت فقط بتحرير المحتجزين الأربعة، دون أدنى اهتمام بالضحايا الفلسطينيين خلالها، ولا حتى بسقوط الضحايا الثلاث من بين المحتجزين أنفسهم.


لقد اتضحت تماماً أهداف ونوايا بايدن من صفقة التبادل، فهو وإدارته يكملان المهمة الناقصة، التي يتعذر على حكومة الإبادة الجماعية القيام بها، وبايدن يبذل كل ما في وسعه من أجل استمرار الحرب، ما دام يتفق مع بنيامين نتنياهو على أهدافها العسكرية والسياسية، وما دام يعجز عن إقناع شريكه بما يختلف معه حوله، من مثل تسهيل استمرار الحرب، بتخفيف عدد الضحايا من المدنيين الفلسطينيين، أو زيادة إدخال المعونات، وما إلى ذلك، وبالطبع بايدن مقتنع تماماً بأن قيام إسرائيل إنما هو التزام ديني قبل أن يكون سياسياً، وهو فاخر دائماً بكونه صهيونياً وإن لم يكن يهودياً، وبالطبع إدارة بايدن جعلت من دورها ونشاطها إلى جانب إسرائيل في الحرب الحالية، مادتها الانتخابية، التي تعول عليها من أجل البقاء أربع سنوات أخرى في البيت الأبيض.


أما جيك سوليفان الذي يعتبر رجل بايدن الأهم، فكان أكثر توازناً من رئيسه، لكن أكثر خبثاً وكذباً حين علق بالقول، إن الطريقة الفعالة لإنقاذ جميع الرهائن هي التوصل لوقف شامل لإطلاق النار، وهو يقصد بالطبع صفقة التبادل، وقد أوضح ذلك بنفسه حيث قال، إن الطريقة الفعالة لإنقاذ جميع الرهائن هي صفقة وفق خطة بايدن، وقد اتضح انحيازه لإسرائيل بالطبع، والدور الذي يقوم به من خلال الترويج لعروض صفقات غير قابلة للتنفيذ، مهمتها زيادة الضغط على حماس ، ومحاولة تضليلها، إضافة إلى تخدير الرأي العام العالمي، لتسهيل مواصلة واشنطن القيام بالتغطية على حرب الإبادة الجماعية، بقطع الطريق على مجلس الأمن، وذلك حين ادعى أن خطة بايدن قبلتها إسرائيل، بينما ما زال ينتظر رد حماس!


حقيقة التضليل الذي تمارسه واشنطن بهدف تخفيف الضغط المعارض داخلياً ودولياً لدورها في حرب الإبادة، مع الاستمرار في دعم القوة العسكرية الإسرائيلية ميدانياً، بات جلياً، وهذا لا يعود فقط، إلى أن نتنياهو قام أكثر من مرة بصفع بايدن وأعضاء إدارته حين جاهروا باتخاذ مواقف معارضة لتكتيك الحرب الذي يسير عليه منذ أكثر من ثمانية أشهر فقط، بل إن نتنياهو نفسه قام بالرد على سوليفان حين نقل عنه أول من أمس قوله أنه لم تكن هناك صفقة رهائن، لأنه لن يتخلى عن أهداف الحرب، وإن الخلاف الرئيس مع حماس هو بشأن إنهاء الحرب، دون تحقيق أهدافه حسب قوله.


أي أن المعروض إسرائيلياً وبغطاء أميركي هو وقف مؤقت لإطلاق النار، يتحقق خلاله تحقيق الهدف الإسرائيلي الذي عجز عن تحقيقه الجيش طوال ثمانية أشهر، بما في ذلك أكثر من شهر مر على العملية العسكرية في رفح، وهو تحرير المحتجزين، ومن ثم مواصلة الحرب، حتى تهجير وإبادة الشعب الفلسطيني، وإغلاق كل احتمال ممكن لقيام دولة فلسطين المستقلة، وما يؤكد ذلك إصرار نتنياهو على رفض الحديث عن اليوم التالي، وبالتحديد رفض قيام السلطة بإدارة معبر رفح ، لما في ذلك من إشارة لوحدة قطاع غزة مع الضفة الغربية، أي وحدة الأرض الفلسطينية المحتلة العام 67، الوحدة السياسية التي هي جوهر قيام الدولة المستقلة، وبالطبع من السهل على نتنياهو وفاشيي حكومته الحالية أن يواصلوا حرب الإبادة بحجة ملاحقة حماس، كما يفعلون في الضفة الغربية و القدس .


المهم أن عملية النصيرات، رغم ما رافقها من جريمة حرب مكتملة الأركان والعناصر، ضخت أوكسجين أو جلوكوز في عجلة حرب نتنياهو المنهكة، وهي تقريباً المرة الثانية التي تنجح فيها كل قدرات إسرائيل وأميركا الاستخباراتية والعسكرية في "تحرير" عدد قليل من المحتجزين، لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة.


على أي حال، كما الحقيقة المؤكدة بأن الأمن والاستقرار مع الاحتلال لن يتحققا ولو بعد ألف عام، فإن أمد الحرب المندلعة حالياً، سيطول كثيراً، ولن تتوقف لا ضمن صفقة أو هدنة ولا غيره، بل إن إسرائيل لن تعلن وقف الحرب ما دام نتنياهو رئيساً لحكومتها، وما دام إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وزيرين فيها، وكما هي الحال على الحدود بين روسيا وأوكرانيا، أي أن الحرب مستمرة منذ أقل قليلاً من ثلاثين شهراً، وكما هي الحال في الضفة الغربية، أي في جنين وطولكرم و نابلس ، حيث الملاحقات العسكرية متواصلة منذ عامين ونصف العام، ستظل الحال، حتى لو تغير الأمر داخل قطاع غزة قليلاً، أي جرى انخفاض في مستوى القتل اليومي، وزيادة في إدخال المساعدات الإغاثية عبر الأميركيين، وتم إبدال معبر رفح بالميناء الأميركي، فإن الحرب التي بدأت وتواصلت ببعد إقليمي/دولي، ستظل قائمة بشكل أو بآخر، ما يؤكد هذا التوقع، هو أن الإسرائيليين يسعون لمواصلة الحرب من أجل تحقيق الهدف الإستراتيجي وهو نفي الآخر، وإغلاق الأفق نهائياً أمام حل الدولتين، ولا يقتصر هدفهم على سحق حماس أو مسح غزة من على الخارطة، وهم لو حققوا هذا الأمر، فهناك الضفة الغربية والقدس، ثم هناك بعد ذلك جنوب لبنان بحزب الله، ومن ثم هناك الحوثي اليمني والعراق وسورية وبعد كل هؤلاء هناك إيران.


أما حماس وغزة، فرغم شراسة الحرب، إلا أنها كانت المرة الأولى التي تشاركهما الحرب الجبهات الأخرى، وإن بصورة الإسناد دون الانخراط التام فيها، حتى الآن، كذلك هناك تفاعل إقليمي ودولي كاسح، وهناك صمود أسطوري، ورغم الضحايا والدمار، إلا أن إسرائيل قد نالها من الخسائر جانب وعلى كل المستويات، بما في ذلك تهجير عشرات الآلاف من الغلاف والشمال، وهكذا فإن حرباً اندلعت بهدف تحقيق أهداف حاسمة، لطرفيها بالذات، فإنها لن تتوقف في منتصف الطريق، ومع ظهور التدخل الدولي في الأفق، وإن على شكل إمداد عسكري روسي للطرف المناهض لإسرائيل، فإن الصراع من أجل تغيير النظام العالمي من جهة مقابل الإصرار على تعزيز أركانه من جهة أخرى، يجد ميدانه الساخن في غزة، فيما قد تنخفض النار في غزة وتشتد في مكان آخر، فيما تبقى الحرب هي لغة التخاطب بين الأعداء.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد