ما أن يبكر الصبح ويستيقظ الناس في قطاع غزة بعد ليلة تكون عنيفة قصفاً وتدميراً وشهداء وجرحى في مختلف مناطق القطاع ، حتى تبدأ طوابير الناس بالزحف كالجراد قادمة من مختلف بلدات ومخيمات شمال غزة المدمرة متجهة لجنوب غرب مدينة غزة ، عشرات الالاف من المواطنين الذين ينهشهم الجوع والعطش يتكدسون على المقطع الممتد من دوار ال ١٧ حتى مفترق شارع ٨ على طول شارع الرشيد ،يتقاطرون رغم البرد والخطر منذ ساعات الصباح تتساقط فوق رؤسهم القذائف بين الفينة والأخرى يتعرضون لرشقات الرصاص يفترشون الارض يجلسون على حواف البيوت المدمرة ،يتساقط الشهداء تتكوم جثثهم التي لا ينقلها جثامينهم فالكل منشغل بانتظار كيس الطحين الذي نفذ كلية من شمال غزة وبات يباع كيس الطحين خمسين كيلو ان وجد بألفي شيكل.
في كثير من الايام يعود الناس خالي الوفاض بعد انتظار لساعات لم تصل شاحنات المساعدات المنتظرة ، يجرجرون اقدامهم من الارهاق ترتسم كل علامات الحزن والالم على وجوههم الشاحبة وعيونهم الدامعة يعتصرون الأمعاء من شدة الجوع يطلبون شربة ماء يمكن ان تطفأ الظمأ ، وربما يتذكرون ان ينقلوا من سقط من الشهداء او يعودون في صبيحة يوم آخر لانتشالهم في انتظار يوم آخر يحمل أملاً جديد، وفي ايام اخرى نادرة تصل الشاحنات قليلة العدد تحمل الطحين أو شيء منه وتزأر بمزاميرها وما ان تصل لجامع الشيخ عجلين حتى تزحف الجموع تتقافز على الشاحنات وهي تواصل السير للنقطة المحددة تدوس تحت عجلاتها من يغامر لاعتلائها قبل وصولها للنقطة المحددة تجناً لقذيفة او رشقة رصاص .
هنا الناس يعتلون الشاحنات في مشهدٍ بائس من الفوضى يلقون اكياس الطحين لبعضهم البعض ومن يخالفه الحظ يتلقف نصيبه فيضع كيس الطحين على كتفه وباليد الأخرى سكين او فأس او اية الة حادة ليتمكن من حماية هذا الصيد الثمين وإيصاله لاطفاله الذين يتضورون جوعاً في خضم معركة الحصول على كيس الطحين او نصفه او بضعة كيلوات تنتشر بعد ان يبادر احدهم لتقطيع كيس ٍ يحمله شخص ما بسكين ، وقد يتلقى العشرات طعنات خنجر او ضربة ماسورة حديد على رأسه او بطنه ينجح البعض في حماية صيده ويوصله للبيت حيث تعم الفرحة وترتسم الابتسامة على شفاه الجوعى ترحيباً بالضيف العزيز بعد طول غياب.
العصابات تنتشر عشرات الشباب يحملون السكاكين والالات الحادة ينتظرون الناس في محاولات تنجح احياناً وتفشل اخرى لسلب الناس ما يحملونه من الطحين هذه العصابات طورت أسلوب عملها واصبحت تمارس كل أشكال العنف وتسطو بشكل منظم على الشاحنات تستحوذ على كميات كبيرة تجدها في اليوم التالي معروضة للبيع على البسطات التي انتشرت في أسواق جديدة نشأت في أتون الحرب حيث يباع كيلو الطحين بمئة وخمسين شيكلاً بعد ان كان ب اربعة شواكل ليصل ثمن كيس الطحين ٢٥ كيلو ما يزيد عن ألفي شيكل.
هكذا ينتظر الناس كل يوم لقمة الخبز التي اصبحت نادرة وبعد ان توطن الجوع في شمال غزة وبات ينهش أمعاء الغزيين الذين اصروا على البقاء في أشباه بيوتهم او فوق أنقاضها يواجهون الدمار والنار والجوع حيث لا طحين ولا ماء ولا معكرونة ولا رز ولا عدس ولا حتى شعير بات الناس ينافسون الدواب على اكله ناهيك عن انعدام كل أنواع الخضار والبقوليات ، انه الجوع الذي لا يرحم وينشب أظافره الحادة في الأمعاء ، وبات الناس بكل فئاتهم اطباء مهندسين أساتذة جامعات ومن مختلف الشرائح يصارعون من اجل كيس الطحين هذا وهم يتألمون و يتذمرون يئنّون حزناً والما وهم الذين صمدوا في وجه حصار ظالم ما زال مستمراً.
هنا في غزة يواجهون الموت والجوع يصمدون رغماً عنهم ، يبصقون بكل قوة كلما حانت لهم الفرصة على شاشات التلفاز وهم يشاهدون الراقصون فوق دمائهم وجراحهم وجوعهم ، ولسان حالهم يقول "الي بدو يعمل جمال يعلي باب داره".
المصدر : وكالة سوا
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية