ستمر أيام قبل أن يدخل العدوان على غزة شهره السادس فيما بات يُعرف بالحرب على غزة، ويبدو كل العالم عاجزاً عن وقفها أو الضغط باتجاه لجم إسرائيل وإجبارها على التراجع عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها على المواطنين العزل في قطاع غزة.
لا شيء يتغير، بل إن وتيرة الحرب تتصاعد وتأخذ أشكالاً مختلفة تبدو في كل مرة أكثر قسوةً من تلك التي سبقتها. لا يبدو أن ثمة شيئاً في الأفق، أو أن هناك يوماً محدداً او حتى شهراً محدداً يمكن أن تتوقف فيه الحرب. فالحرب تنتج ماكنتها الخاصة التي تجعل استمرارها أمراً بديهياً ومفروغاً منه.
هل العالم عاجز إلى هذا الحد؟ يمكن بثقة الإجابة بـ «نعم». فحين يتعلق الأمر بإسرائيل فإن العالم لا يعرف كيف يتصرف، وتتحول كل مؤسساته إلى مجرد علب كرتون لا يمكن تحريكها، لأن النظام الذي أوجدها هو ذاته الذي أراد خلق دولة الاحتلال على حساب شعبنا وأرضنا وحقوقنا، لذلك فلا يمكن له أن يضغط باتجاه تفكيك ما بناه. نعم العالم عاجز وأكثر عجزاً من ذلك، حيث يتعلق الأمر بالضغط على إسرائيل، لأن هذه الكلمة غير موجودة في قاموس المجتمع الدولي، فهو لا يعرف كيف يمكن أن يضغط على إسرائيل، وهو غير راغب وغير قادر في ذات الآن على فعل ذلك، لذلك فلا قيمة لكل ما يمكن أن يفعله. التحول الوحيد الذي طرأ على مواقف المجتمع الدولي يمكن أن يبدو مزحة ومثيراً للشفقة، فالعالم انتقل لمربع تقليل الخسائر والضحايا، فبدلاً من أن يطلب من دولة الاحتلال إنهاء الحرب ووقف المحرقة صار يطلب منها أن تخفف من عدد الضحايا، وصار رجاء العالم لتل أبيب أن تقتل منا عدداً أقل، فبدلاً من أن يتم قتل ألف شخص في اليوم أو سبعمائة يكفي أن يُقتل مائة أو مائتان. وصار قتل هؤلاء شيئاً هيّناً، لأنه في محصلة الأمر يعني أن عدد القتلى بات أقل، وباتت دولة الاحتلال أكثر حساسية تجاه مواقف المجتمع الدولي وتجاه مطالبه، ويجب شكرها والثناء عليها لذلك.
لاحظوا حتى نحن أصحاب الوجع تخدّرت مشاعرنا، وصرنا نحزن أقل ونتألم بشكل أقل وجعاً كلما مر الوقت. وربما نقول في الصباح لبعضنا البعض لقد استُشهد اليوم فقط مائة، وكأننا نحمد الله أنه لم يستشهد ألف مثلما حدث يوم مذبحة جباليا أو المعمداني. صارت الدماء القليلة أفضل من نهر الدم الجاري.
هل نتعايش مع الحرب؟ على أحدهم أن يجيب بقلق أن استمرار الحرب لستة أشهر قد يعني شيئاً من هذا القبيل، دون الإقرار بها وبمذابحها ولا السكوت عنها. فنحن في نهاية المطاف أصحاب قضية، ومن يُقتل هم أهلنا وعلينا تقع مسؤوليات كبيرة في تذكير العالم ببشاعة المقتلة التي تجري بحق شعبنا في غزة.
انتبهوا، فالعالم أيضاً باتت مطالبه تقتصر على زيادة كمية المساعدات التي تدخل لغزة. ويمكن لإدخال عشرين شاحنة جديدة أن يعتبر انتصاراً كبيراً للدبلوماسية الأممية. أيُّ سخرية تلك؟ دولة بجيشها وبطشها تحاصر شعباً وتهجّر سكانه من بيوتهم، وتمنع عنهم الطعام والدواء والماء والكهرباء وربما الهواء، ويصير مطلب المجتمع الدولي منها أن تقوم بإدخال المزيد من المساعدات دون أن يجرؤ على الضغط عليها لرفع حصارها عنه، أو لوقف المذابح التي تقوم بها بحقه. العالم كله يرجو أن يتم إدخال شاحنات طعام جديدة، والشاحنات التي تصطف في الجانب المصري لكيلومترات كثيرة في انتظار أن تسمح دولة الاحتلال لها باجتياز المقطع الفاصل مع غزة ليست إلا دليلاً آخر على عجز هذا العالم. وحدث أن قامت دولة الاحتلال بمنع الشاحنات من الدخول وقصفت في بعض المرات سيارات الإغاثة والمساعدات، كما قصفت خيام النازحين وقصفت النازحين وهم في الطريق الذي ظنوا أنه آمن. جُل ما يسعى إليه العالم أن يكون هذا العدوان بدون نقد، أن يمر دون ان يقلقه ضميره. يشبه الأمر كيف حوّل الاحتلال عملية السلام إلى احتلال ديلوكس مدفوع الأجر والتكاليف، الآن هذه الحرب يحوّلها العالم إلى عدوان لا يلقى أي نقد ولا أي غضب جماهيري، كل ما في الأمر أن ضمير العالم يجب أن لا يصحو، وعلى إسرائيل أن تراعي ذلك حتى لا يتألم هذا الضمير. عدد أقل من القتلى وكميات أكثر من المساعدات.. وهكذا.
هل انتبه أحد أن نصف الأخبار الآن باتت عن أحاديث الضغط الدولي للتخفيف من ضحايا العدوان المستمر، وحول إدخال المزيد من المساعدات؟ باتت هذه اخباراً بحد ذاتها وكما دائماً على حساب الأخبار الحقيقية التي تكشف بشاعة العدوان أي أخبار القتل والمجازر والتهجير. أيضاً لا بد أننا انتبهنا كيف تحول الحديث عن الهدنة إلى صراع، وصارت أخبار المفاوضات في القاهرة او الدوحة وقبل يومين في باريس هي مركز الأخبار التي يتم تناقلها عن الصراع، وأيضاً تصريحات الأطراف المعنية ومتابعة جلسات مجلس الحرب في دولة الاحتلال واجتماعات الحكومة الإسرائيلية بالخصوص، كل هذه باتت هي ما ننتظره في نشرات الأخبار، للدرجة التي صارت أخبار الحرب نفسها أقل أهمية. صحيح أن الهدنة بالنسبة لنا ولكل الأطراف المتضررة من الحرب أهم من الحرب ذاتها، لأنها تعني نهاية الحرب ووقفها بشكل حتى لو كان مؤقتاً، لكن ما يحدث أن الهدنة لا تتحقق ويستمر الحديث عنها وحولها الآن لأكثر من شهر دون أن يتحقق شيء، وخلال ذلك لا تتوقف الحرب بل تستمر وتزداد قوة ويزداد القتل والتدمير. في المحصلة كأنها هدنة لا تتحقق وحرب لا تنتهي، وكأنه كابوس لا نُفيق منه أبداً، ومتاهة في غابة لا يعرف الضوء مسلكاً بين أغصان أشجارها المتشابكة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية